بعد حجب جائزته وسلبية القائمين عليه… بَيَان في اسْتِنْكارِ وإدانَةِ ما يجري في الشِّعر المغربِيّ المُعاصِر
[caption align="aligncenter"]بعد حجب جائزته وسلبية القائمين عليه… بَيَان في اسْتِنْكارِ وإدانَةِ ما يجري في الشِّعر المغربِيّ المُعاصِر[/caption]خمسةٌ وخمسون سنَةً، هي عُمُر الشِّعر المغربي المُعاصِر. وبمقياس الجيل عند ابن خلدون، فإنَّ الشِّعرَ المغربِيَّ سيكون اسْتَوْفَى هذا المعنى، الذي يُحَدِّدُه ابن خلدون في خمسين سنة، أو تجاوزَهُ، إلى ما يمكن اعتبارُه بداياتِ جيل شِعريّ آخَرَ جديدٍ. الأسئلة التي تَشْغَلُنِي هُنا، هي: ما الَّذِي يمكن أن نقولَه عن تجربة شعريةٍ اسْتَوْفَتْ كُلَّ هذا العُمُر؟ وما الذي نَعْرِفُه عن هذه التَّجربة، باختلاف حساسياتِها، وباختلاف وتنوُّع أعمار شُعرائِها، واختياراتِهم الشِّعرية: وما حَقَّقَهُ كُلُّ «جِيلٍ»، بالمعنى الإجرائيّ الذي به، فقط، نُحاوِل حَصْر المدى الزمني الذي فيه ظهرت جماعةٌ من الشُّعراء، وما حاولوا تقديمَه من اقتراحاتٍ، أو ما أقْدَمُوا عليه من اختراقاتٍ، إذا كان ثَمَّة ما يُمْكِن اعتبارُه اختراقاتٍ، عند رَعِيل دُونَ آخر؟ وما الذي قَدَّمَه النقد، والبَحْث الجامعي لهذا الشِّعر من خدماتٍ، مثل التأسيس لِمعرفَةٍ شعرية، تُتِيح للشُّعراء، ولغيرهم من القُرَّاء والباحثين، أن يُدْرِكوا طبيعة الإضافات التي أنْجِزَتْ، إمَّا بصورةٍ جماعية، أو بصورة فردية، تَخُصُّ شُعراءَ بعينهم؟ أم أنَّ ما يجري، اليوم، في الشِّعر المغربي، هو نوعٌ من التعميم والتَّعْوِيم، في القراءة والكتابة معاً؟ وهل اسْتَطَعْنا وَضْع خريطةٍ شِعرية واضحةِ المعالِم، تُتِيح لَنا أن نكون عارفين بهذا الشِّعر في بنياته، وفي ما يتميَّز به من خُصوصياتٍ محلِّيَة، تَسْمَح بِنَقْل هذه التَّجْرِبَة إلى أفقها الكونيِّ الذي هو الأفق الشِّعريّ الأوْسَع، الذي بدونه لا يمكن لهذا الشِّعر أن يخرج من وضْع الصَّدَى، أو استعادة وتكرار تجاربَ سابقة، ثم ما الذي أحْدَثْناه في هذه التجربة، بعد مرور كل هذا العُمُر، من تعديلاتٍ، في المفاهيم والتَّصَوُّراتِ، وطريقة النَّظَر، وفي إعادة قراءة هذا الشِّعر، في أعماله «الكاملة»، لا في ما هُو مُجْتَزَأٌ، مما لا يسمح لنا بتكوين رؤية واضحة حول هذا الشِّعر، من جهة، وحول التَّجارب الفردية، من جهة ثانيةٍ، وما دَوْر المدرسة والجامعة، والإعلام في تعميم هذا الشِّعر، وتكريسِه، ما الصُّورة التي بها يُقْرَأُ الشِّعر في هذه المؤسَّسات، وما المناهج التي نقرأه بها، أو بها نُحْدِث الشُّقوق، والتَّصَدُّعات الضرورية، في هذا الشِّعر، باعتباره أفقاً جمالياً، قبل أن يكون أفقاً للمعنى، أو الفكرة، أي ما يقوله النص؟ لا أريدُ أن أسْتَمِرَّ في تَشْقِيق هذه الأسئلة، التي يمكنها أن تتناسَل إلى ما لانهاية، بما يعنيه ذلك، من قَلَقٍ يَأْكُلُنِي، ويأخُذُ من انشغالي بهذا الشِّعر، كثيراً من الوَقْتِ، في البحث عن مُسَوِّغاتٍ، ربما، لِما يجري في هذا الشِّعر من تَلْفِيقٍ، وتَرْمِيقٍ Bricolage وما يحدُثُ فيه من خَلْطٍ، أو تعميم، يَشْتَرِك في ترويجِه الشُّعراء، وغير الشُّعراء، من نُقَّاد وباحثين، وأيضاً، الدَّوْر الخطير الذي تَلْعَبُه وسائل الإعلام التقليدية والجديدة، في تعميم هذا الخَلْط، والتَّرميق، وتَكْريسِهما ك«حقيقة» تحجُب الواقع، أو كَغُيوم كاذِبَة. في الآوِنَة الأخيرة، قرأتُ دراساتٍ وقراءات نقدية، كان موضوعُها الشِّعر المغربي المعاصر، بحثاً عن أجوبة لبعض هذه الأسئلة الكثيرةِ التي لا تتوقَّفُ عن التَّوَغُّل في نفسي، وفي فكري ووجداني، فما اكْتَشَفْتُه، زاد من مُضاعَفَة هذه الأسئلة، وتَكْثِيرِها، وزاد من قَلَقِي على مستقبل هذا الشِّعر، وأَكَّدَتْ لِي، هذه الدِّراسات والقراءات، أنَّ هذا الشِّعرَ سيبقى لوقْتٍ طويلٍ دَفِينَ «أغماتَ»، وأنَّ النَّقْدَ، وما يخرج من الجامعة من كتاباتٍ، لا تزيدُ الطِّينَ إلاَّ بَلَّةً، أي أنَّ النَّصَّ، الذي هو الحَكَم، في فهمنا لِما يجري في هذا الشِّعر، يزداد قَتامَةً، وطبَقات التعميم والالتباس، تزداد كثافَةً، في الوقت الذي يمكن أن يكون هذا النقد أداةً للمَسْح الطوبوغرفي لهذه الأرض، لمعرفة صلاحيتها للبناء، ومُستويات طبقات هذا البناء. إذا كان النقد، لم يعرف أهميَّةَ النص، مُقابل الشَّخْص، أو المسافة التي تفصل بين الاثنيْن، في ما نعتبره من ضرورات التأسيس للمعرفة بالشِّعر، وكان الناقد، مهما تكن علاقتُه بالنقد، أو المكان الذي منه يأتي إلى النقد، لم يتعلَّم بعد الخُروجَ من ذاته، والنَّظر إلى القيمة الشِّعرية، دون غيرها من الاعتبارات التي لا علاقةَ لها بهذه القيمة، كما كنتُ أؤَكِّد، دائماً، فهذا يعني أنَّ الشِّعر المغربِيَّ سيظلُّ شِعراً خاماً، وأنَّ النصوص والأعمال الشعرية التي آُنْجِزَتْ خلال هذه العقود الخمسةِ، ستبقى أرضاً غير محروثةٍ، أو أنَّ حَرْثَها، أو ما أعْمَلْناه فيها من محاريث، أفْسَدَتْ تُرَبَها، أكثر مما عَمِلَتْ على شَقِّ أرضِها، وفَتْق زَرْعِها، وإخراجِه للنَّاس، ليصير خُبْزاً صالِحاً للأكْل. فإنْ تجِدَ، وهذا ما حدث في الجامعةِ التي تدَّعِي البحث العلمي، وتَجَرُّدَ الباحث والمُشْرِف، طرفاً في هذا التزوير، والإخفاء، حيثُ يصير المُشْرِفُ هو موضوع البحث، وهو من يُناقشُه، وهو من ينشره، فما الذي ننتظره من غيره ممن يكتبُ من خارج الجامعة، أو الأكاديمية بالمعنى الأفلاطوني، خصوصاً إذا كان هذا الشَّخْص يَدَّعِي «الحقَّ في الشِّعر»، فأين هو الحق في البحث، وحُرِّيَة الباحث في اختيار موضوعِه، وفي اختيار من يرغب فيهم من شُعراء؟ لا يأْتي الأذى إلى الشِّعر من النَّقْد، أو من غيره من الذين هُم خارج الشِّعر، بل من الشُّعراء أنْفُسِهِم، وهذا أوْج ما نحن فيه من اضْمِحلالٍ. للإعلامِ دَوْرٌ في ما يجري. فهو بدوره أصبح يُسَمِّي، ويُوَزِّع الصِّفات، ويُساهم في هذه التَّعْمِيَة، وفي مُضاعَفَة حَجْبِ الشِّعر المغربي عن قارئه. ما يُقال ويُكْتَب عن النَّصّ أكبر من النَّصِّ نفسِه. حين تَخْتَبِر النَّصَّ في ضوء القراءة، تَجِدُ هُوَّةً بين الاثنيْن، أو تكتشف، بخبرتك وما تَعَلَّمْتَه من الشِّعر، ومن النصوص نفسِها، أنَّ هذه قراءة لِنَصٍّ لم يُكْتَب بعد، وهذا، بقدر ما ينْطَبِق على النقد الإعلامي، أو التغطيات الصحافية، والإخبار بالإصدارات، بقدر ما ينطبقُ على الدراسات النقدية أيضاً، التي، باتَتْ تُكْتَبُ باللغة نفسها، وبالحَجَّة نفسها، إي إلى الدَّرجَة التي أصبح معها النقد، هو الكلام نفسه، على نصوص لا علاقةَ بينها. الدراسات التي صدرتْ في السبعينيات عن الشِّعر المغربي، وما تلاها من دراساتٍ، هي في الأصل، دبلومات، أو شهادات لِنَيْل درجات جامعية، لم تكن في منأًى عن هذا التعميم، أو بالأحرى، كانَ من أنْجَزُوها، ينتصرون لجيلهم، بنقد غيرهم ممن سبقوهم، أو باعتبار تجربة السَّابقين، محفوفةً بالأعطاب، وأنَّ الشِّعريةَ، أو بداية الحداثة الشِّعرية، في المغرب، كانت مع جيل السبعينيات، أو كانت مع شاعرٍ بعيْنِه، في ما النَّصُّ يفضَح كل هذا التَّهافُت، وهذا التعميم، أوالتَّلْبيس، الذي هو جزء من مُعْضِلةُ البحث الجامعي عندنا، في ما يتعلق بالشِّعر، ناهِيك عَمَّا يجري في مُناقَشات البحوث الجامعية. غير هذه الدراسات، انْشَغَلتْ بالمنهج، بالأداة، وبترجمة المفاهيم، وتلخيص فصول الدراسات والكتابات النظرية أو النقدية الفرنسية، بشكل خاص، وبَقِيَ النص خارجَ اهتمامها، أو هو آخر ما كانتْ تعود إليه، أو يتأبَّى عليها، ولا تُدْرِكُهُ، أو يبقى مُنْطَوِياً على نفسه. وهذا ما تُؤَكِّدُه المسافة الفاصلة بين النظرية والمُمارسة، أو بين المنهج والنص، أو بين الجامعة والبحث «العلمي» الذي تَنْقُصُه الجُرأةُ في تَعَلُّم حُرِّيَة النَّص الشِّعري، وما فيه من رَغْبَة في التَّحرُّر والانطلاق. المؤسسات الثقافية، وعلى رأسها «بيت الشِّعر» و «اتحاد كُتَّاب المغرب»، ويمكن إدراج «وزارة الثقافة» في هذا الباب، لم يَعُد الشِّعر وارِداً عندها باعتباره سؤالاً، أو أفقاً معرفياً وجمالياً، بل إنَّه دَخَل في باب الضرورة، أو ما تفرضه وظيفة المؤسَّسَة، فبرمجة الشِّعر في المعرض الدولي للكتاب، كانت في آخر الليل، أو اللحظة التي كان الجميع يغادرون فيها قاعة المعرض، إلى بيوتهم. أمَّا ما تُصْدِرُه هذه المؤسسات من مجلاَّتٍ، فلن تجد فيها أعدادا خاصَّةً بالشِّعر المغربي، مثلما يحدث مع الرواية، تكون بمثابة مُراجعةٍ، أو خَوْضٍ في أسئلة الشِّعر الجوهرية، أو ما يقترحُه الشِّعر، اليوم، من اختراقاتٍ، ومن انقلاب في المفاهيم وفي التَّصَوُّرات. لا شيء من هذا حدثَ منذ سنواتٍ، وهو ما يَسْرِي على الندوات، واللقاءات، والمهرجانات. فكيف، بهذا المعنى، نَدَّعِيَ المعرفةَ بِشِعْرٍ، إمَّا أنه قُرِيءَ بِما ليس فيه، أو طاوَلَه النِّسيان والتهميش، أو دَخَل في سياق المنطق القَبَلِيّ، أُنْصُر أخاك، شاعراً كان، أو غير شاعر. العدد الذي صدر عن مجلة وزارة الثقافة الخاصّ بالشِّعر، كان تعبيراً عن المأزق الذي يقع فيه الشِّعر، أو ما يحدُث في الشِّعر من خَلْط للحابل بالنَّابِل، والاحتكام لمنطق العلاقات الخاصَّة، لا إلى الشِّعر ذاتِه، وما يُرافِقُه من نقد، وليس أدلَّ على ذلك، الجدل الذي أعقب صدور هذا العدد، وهو الجدل نفسه الذي جرى حول العدد الخاص بمجلة «الشُّعراء الفلسطينية»، وغيرها مما يجري في الغُرَف المُعْتِمَة، مما لا نراه، حتَّى يصير الأمْرُ جَللاً. أعتقد أنَّ السنوات القليلة الأولى لتأسيس، «بيت الشِّعر في المغرب»، أي قبل أن يخرج هذا المشروع الشِّعري الحالِم، عن فكرته الجماعية، ليصير فكرةً فرديةً، كانت مثالاً قوياً عمَّا خَلَقَتْه هذه المؤسَّسة من حَراكٍ في الشِّعر المغربي، وانتقال هذا الشِّعر إلى المؤسسات التعليمية، وإلى الجامعات، وأصبح الشَّاعر المغربي، في غُضون هذه السنوات القليلة، أكثر حيويةً في علاقته بالجمهور، وفي انفراط عقدة اليُتْم عنه. الشِّعر، لم يَعُد خارج اهتماماتِه الجمالية والفنية، بل أنَّ علاقَتَه بغيره من الفنون ازدادَتْ. علاقة الشِّعر بالتشكيل، وعلاقة الشِّعر بالمسرح، وعلاقة الشِّعر بالجسد، وأعني، تحديداً، الكوريغرافيا.. لا مسافَة تفصل الجمال عن الجمال، واللغةَ عن التعبير الجسدي، أو الإيقاعَ عن اللَّوْن، وأيضاً المعمار، والأشكال والأحجام والمساحات، حتَّى في ما لم نَبْلُغْه في هذا التاريخ، فهو كان نوعاً من إثارة الانتباه إلى الشِّعر باعتباره جامِعَ أجناسٍ، وجامع فنونٍ، وجامع جمال. الأنطولوجيات الشِّعرية، التي كان يمكنها أن تكون نافِذَةً للانفتاح على التَّجارب، والمَوْضوعات، وتُساهِم في إزالَة بعض الغموض، وتُتِيح النصوص للقُرَّاء والمُهْتَمِّينَ، لم تستكمل مشروعها. كان «ديوان الشِّعر المعاصر»، الذي أعْتَزُّ باختيار نصوصه، وانتقائها، مشروعَ مؤسسة، وكانت الأسماء، لا النصوص، اختياراً جماعياً، ومهما كانت الانتقادات التي افْتَقَرَتْ إلى الدِّقَّة والسُّؤال والبحث والتَّقَصِّي، فهذا العمل بَقِيَ لحظةَ ضوء، في لَيْلٍ بهيم، لا يزيدُ ظَلامُه، في ما أراه إلاَّ سُمْكاً وكثافةً»1». ما الذي يُسَوِّغ لنا مُصادرة الحق في الاختيار، أو الحق في أن يكون لنا مشروع من هذا القبيل، مُقَدِّماتُه تكفي لتشرح لنا الأسباب؟ فالأنطولوجيات في جوهرها، قراءاتٌ، ولا يمكن الذَّهاب إليها، إلاَّ بمعرفة الشِّعر الذي منه نختار هذه النصوص، وعلاقة القراءة التي نربطها مع هذا الشِّعر، هذا ما جرى في أنطولوجيا عبد اللطيف اللعبي، التي أجَّلْتُ شخصياً ملاحظاتي عنها، وما فيها من أمور تحتاج إلى نقاش شعري واسع وكبير، واكْتَفَيْتُ بِتَحِيِّتِها، حتَّى وأنا لا أعرف، آنذاك، هل أنا ضمن شُعرائها، أو لا. ما يمكنه أن يخرج بنا من هذا النوع من الجدل حول من حَضَر ومن غابَ، هو أن تُصبح الأنطولوجيات عندنا، جزءاً من الأعمال التي تهتم بالشِّعر، وتحتفي به، فالتراكُم، هو ما يُساعد على سَدِّ الثَّغرات، ويُتِيح توسيع الرؤية، وطبيعة النظر. لعلَّ بين ما يجعلُ من الشِّعر المغربي اليوم، خارِجَ اهتمامنا، هو هذا التعميم، والخلط، في النَّظر إليه، وفي قراءته وفي تدريسه، وفي انتقائية البحث الجامعي، ليس بما يرغب فيه الطَّالِب ويقترحه، بل بما يفرضُه المُشْرِف ويُريدُه. المُقَرَّرات المدرسية، لا تخرج عن هذا المنْحَى، فهي تُسِيء إلى الشِّعر أكثر مما تَخْدُمُه، والشِّعر، في نهاية المطاف، هو الضحية، أي باعتباره مشروعاً مُؤجَّلاً، وورْشَةً لم يبدأ العملُ فيها بعدُ. المُفارَقَة، في ما يجري، أنَّ دواوين الشِّعر تَصْدُر بوفْرَةٍ، فيها إفراط، ربما، وتساهُل في الاختيار، وفي التمييز، لكن الشِّعر بَقِيَ خارج سؤاله، وخارج معرفته، وخارج سياقه الجمالي الذي اخْتزَلناه في اللغة، دون غيرها من الدَّوال الكثيرة التي بها يتوسَّع الشِّعر وينْشَرِح، وخارج ذلك القَلَق الذي يسمح بالبحث والمُتابعة والمُواكَبَة، وبالانتصار للقيمة الشِّعرية، وللنص، لا للشَّخْص، ولِما لا يعني الشِّعر من أمور، هي ما باتَ السَّبَبَ الرَّئيسَ في قَتْل شَاعرٍ وإحياء آخر، وما أكثر قُبُور الشُّعراء الأحياء. أعرف من تاريخ الشِّعر نفسِه، أنَّ هناك غِربالاً، لا دَخْلَ لنا فيه، لا يتنازل عن عمله، وهو دقيق في الانتقاء. ولا يترك الزُّؤَان يختلط بالزَرْع، ويعرف جيِّداً كيف يَغْسِل النص الكبير، ويجلو عنه غُبارَ الإقصاء والنِّسْيان، وهذا ما حَدَث عبر تاريخ الشِّعر، منذ جلجامش، هذا النص الذي جاءنا من تحت التراب. كما أعرف أنَّ الشِّعرَ له تاريخه الذي هو تاريخ يجري خارج المؤسسات، وخارج النقد المُجامِل، أو ما ينتفي فيه التَّجرُّد، وبُعد النظر، ولن أغالِيَ إذا قلتُ تَذَوُّقَ النصّ، والالْتِذَاذ بمائه، أو بما يَهْجِسُ به من لَذاذَةٍ، واشْتِهاء. الحاجة اليوم إلى صدور «الأعمال الشِّعرية»، وتوزيعِها، وإتاحَتِها للتَّداوُل العام، هي بين أهم ضرورات إصلاح عَجَلَة هذه العربة الواقفة، قبل اختبار مُحَرّكاتِها، وقابليتِها لعبور المسافات الطويلة. وهي الحاجةُ نفسُها لإعادة قراءة الدراسات النقدية، ونقدِها، هي أيضاً، للخُروج من التَّسْميات التي باتت مُسَلَّماتٍ في نظرنا لهذا الشِّعر، وفي تصنيف شعرائه، ونسبة الريادات لأطرافٍ دون غيرها، في ما النص، الذي هو الحَكَم، بَقِيَ خارج ما نقوله، وما نعتبره حُكْماً على شعرٍ، لم نقرأْه بعدُ، أو قرأناه كَنُتَفٍ وشظايا وتفاريق، وعَمَّمْنا النُّتْفَةَ على الكُلّ، وأصبحت أذُن الفيل هي الفِيل نفسه، كما في حكاية الأعمَى. وهذا لعمري، هو عطب ما نحن فيه من جَهْل بالشِّعر المغربي، الذي علينا أن نتواضع أمامَ ما فيه من اختراقاتٍ، حَجَبَتْها تلك الشَّجرةُ التي في كثافةِ أغْصانِها، اخْتَفَتِ الغابَة كاملةً، وتوارتْ طيورُها عن النَّظَر، في ما هي على مرمَى حَجَرٍ، مِنَّا، كما يُقال. «1» ما يجري من نقاش حول حَجْب جائزة الشِّعر، هو تعبير عن هذا اليأس الذي أنا فيه، لأنَّ ما يُقال عَمَّا جرى من نقاش داخِل لجنة الشِّعر، يكشف عن انحراف الاختيار الشِّعري، وتحويل الشِّعر إلى ذَريعَة لِغَيره، مما هو إفْسادٌ لطبيعة النَّظَر إلى الشِّعر. وقد كتبتُ منذ سنواتٍ، في الموضوع نفسه، مُتسائلاً، وما أزال «كيف يمكن وَضْع مصير الشِّعر، في يَدِ أشخاص لم يكتبوا بعدُ جملتَهُم الشِّعرية الأولى»؟ لأفضح، ليس حَجْب الجائزة، بل تزويرها، وتحويلها من شاعر لآخر. فالحَجْب حَلّ، مهما تكن قسْوَتُه على الشُّعراء، كما على غيرهم، هو أهْوَن من التزوير، وما نحتكم إليه من حِقْدٍ على أشخاص، تجاهَلْنا قيمة أعمالهم، واحْتَكَمنا لِما لا علاقة له الشِّعر، ولا بأخلاق المسؤولية التي طوَّقَنا بها من وضَعنا في هذا المكان. الترجمة، بدورها، أصبحت نوعاً من تهريب النصوص، أو تَبْييضِها. فكيف نُتَرْجِم، ما لم يستقم بعد في لغته «الأم»، أو الأصل، لا لشيء، إلاَّ لتوهيم القارئ أننا أمام شاعر «كوني». عظيم، العالم قرأه، وترجمه، دون غيره. فهذا، أيضاً، مما يحتاج منا إعادةَ تفكير بالشِّعر، في لغته، قبل أن نعمل على تهريبه إلى لغاتٍ، ربما الترجمة إليها، هي كتابة لا علاقة لها بالأصل، وهذا ما نصطدم به، ونتساءل، بصدده، عن هذا «الشاعر» الذي يتنازل عن دَمِه، فقابل دَمٍ آخر، ليس هو دَمُه الذي به كَتَبَ؟ كاتب مغربي صلاح بوسريف
]]>