بوكاوسكي ثانية فضيلة الإستعلاء في زمن الاستسهال

بوكاوسكي ثانية.. فضيلة الإستعلاء في زمن الاستسهال

[caption align="aligncenter"]بوكاوسكي ثانية.. فضيلة الإستعلاء في زمن الاستسهالبوكاوسكي ثانية.. فضيلة الإستعلاء في زمن الاستسهال[/caption]

طرحت بوضوح وبشرحٍ وافٍ في مقال لي بعنوان «بوكاوسكي لا بوكوفسكي: عن استسهال الترجمة وإهدار السياق الثقافي» لماذا يجب أن يُكتب اسم الشاعر الأمريكي الشهير تشارلز بوكاوسكي على الشكل المذكور، وليس بالصيغة الخاطئة المنتشرة بين المترجمين العرب: «بوكوفسكي». لكن ثمة من يستمرّ بالجدل ابتغاء السفسطة والدفاع عن الخطأ، ففي ردّ بعنوان «الترجمة من أجل القارئ لا من أجل المترجم»، تذهب كاتبته إلى أن المترجمين إنما قاموا بتعريب لفظ «بوكاوسكي» فجعلوه «بوكوفسكي»، ولا أعلم من أي مصدر استقت كاتبة الرد معلومتها تلك؛ لكن الواضح أن المترجمين فعلوا ذلك عودة بالاسم إلى لفظه الألماني (boo-kof-skee) لا الأنكلوفوني (boo-kow-ski) المُتعارف عليه، مستندين إلى الأصل الألماني للشاعر الذي لا أهمية تذكر له. كما أن لفظة «بوكوفسكي» ليست تعريباً ل«بوكاوسكي» بأي حال من الأحوال، فالتّعريب يتضمّن إعادة صياغة للاسم في سياق اللغة الجديدة وقواعدها وألفاظها، على شاكلة تعريب «هيركوليز» إلى هرقل، أو «فرانكس/ فرانكيا» إلى فرنجة، أو «تيليفيجن» إلى تلفاز. الفرق بين الأمرين هنا بيّن وواضح ولا يحتمل الفذلكة، ف«بوكوفسكي» و«بوكاوسكي» تتساويان في العُجمة مع فارق أن الأولى خطأ في اللفظ والثانية سليمة. لا يوجد في «بوكاوسكي» أي صوت غريب يحتاج إلى تهذيب، بل إن «بوكوفسكي» أصعب على اللفظ وأثقل على اللسان، فبأي منطق إذن تكون «بوكوفسكي» تعريباً ل»بوكاوسكي»؟ أما نظريّة كاتبة الردّ حول ثقل التقاء حرفي المد (الألف والواو) على «اللسان العربي» في اسم بوك[او]سكي فخاطئة، لأن اللقاء هنا هو لقاء بين ألف ممدودة وواو ليّنة ساكنة، فينتفي عنها المدّ الظاهر (كما في كلمة «يعبد[و]ن» مثلاً) وتُلفظ كما في خَ[وْ]ف وجَ[وْ]ف، وهي تشبه عدّة كلمات عاميّة تُخفّف فيها كسرة الواو إلى سكون، لنجد أن هذا اللقاء سهلٌ ودارج: ح[اوْ]ية / ط[اوْ]لة / بوك[اوْ]سكي. يتحقّق الثقل فعلاً بالتقاء ساكِنَين أو ثلاثة، مثل بوكا[وْسْ]كي الذي (وحاله هكذا) لا يتميّز عن قَ[وْسْ] أو بوكو[فْسْ]كي بأي شيء سوى أن الأخير خطأ فاضح في الترجمة واللفظ. وماذا عن التقاء ثلاثة أحرف ساكنة في اسم بوكاوسكي الأول: تشا[رْلْزْ]؟ ألا يشكل هذا «ثقلاً على اللسان العربي» أفدح وأكبر من الثقل المُدّعى ل»بوكاوسكي»؟ هل يستدعي ذلك الاستعانة ب»تعريبات» للاسم مثل شارل أو كارل؟ إن مثال بوكاوسكي/بوكوفسكي الذي طرقْتُه في مقالي الأول (وقد اكتشفت أثناء البحث أن سليم البيك كان قد طرقه أيضاً في مقال له سبق ما كتبته بأيام)، كان من باب الإشارة إلى بعض مصائب من كلٍّ يحفل بها عالم الترجمة من اللغات الأخرى إلى العربية، وقد ثبتُّ بعضها الآخر في المقال ذاته، وشدّدت على أن المترجم عليه أن يكون ثنائي الثقافة: فجلُّ المترجمين عن العربية إلى لغات «العالم الأول» هم من المُستعربين، يدرسون اللغة والثقافة ويُمضون أشهراً وسنوات في بلادنا، وكذلك هو حال من يُترجم منهم اللغات الأخرى إلى لُغاتهم، يحاولون تشرّب الثقافة المُترجم منها حتى تكتمل إمكانيات النقل المُتمكّن. أما أن يُترجِم عندنا شخص واحد لشعراء فيتناميين وأفارقة وصينيين وروس وأتراك وسويديين ولاتينيين نقلاً عن ترجماتهم الإنكليزية، فهذه لا تصنّف إلا في خانة الجرائم الأدبية الشنيعة والكسل المعرفي الفظيع؛ ويشبهه من يريد أن يُترجم لكتّاب عالميين كبار وهو لم يغادر شاشته الفيسبوكيّة أبداً. يقول الكاتب البريطاني هوارد ساونز في مقدّمة السيرة التي كتبها عن بوكاوسكي (وهي بعنوان: «مُكبّلٌ بذراعيّ حياةٍ مجنونة»، وتعتبر – بحسب كثيرين- السيرة الأشمل والأدقّ): «مِثل بوكاوسكي، قمتُ باستخدام جمل قصيرة بسيطة، وفصول موجزة. وكرواياته، هذه السيرة هي كتاب نحيل. وفوق هذا، فقد تبنّيتُ صوتاً أمريكياً، مُستخدماً التهجئة الأمريكية والعبارات والمصطلحات التي وظفها بوكاوسكي نفسه. أنا إنكليزي، بل لندنيّ، ولا أتحدّث أو أكتب بالطريقة التي أفعل بها في هذا الكتاب، لكنني لم أُرد أن تتنافر إنكليزيّتي مع أسلوب بوكاوسكي الأمريكي الخاص في الحديث والكتابة.» إن كان هذا حال كاتب السيرة، فماذا عسانا نقول عمّن يريد تحمّل أعباء الترجمة؟ يُذكرني عنوان مقال الكاتبة: «الترجمة من أجل القارئ»، ببرنامج إذاعي قديم اسمه «ما يطلبه المستمعون»، والحال أن عصرنا هذا موبوء بهذه «القيمة» الرديئة التي تجعل من الاستهلاك والرواج معياراً، والتوافق العام حقيقة وقاعدة، والجمهور حَكَماً على أشياء قد لا يفقه فيها شيئاً أصلاً، و»اللايكات» حُكْماً ممن لا يملك إمكانيات الحُكم على من لا يملك إعطاء الرأي. الأصل أن الكِتاب/الكتابة وسيلة للتثقيف لا التجهيل، ورفع السوية لا خفضها؛ والكاتب لا يكتب من أجل القارئ، وكذلك المترجم اللاحق عليه: فالعالِم يكتب ما تقدّمه التجربة من نتائج، والمؤرخ يعرض ما بين يديه من وثائق، والأديب يقدّم اشتغالاته الفنيّة التخييلية، والمترجم يحوّل ما ذكر سابقاً من لغة/ ثقافة إلى أخرى، من دون الإخلال بالسياق الأول أو الإلغاز على السياق الثاني؛ من دون أن يخون. ولأن كاتبة الردّ رمتني بالاستعلاء بعد أن نصحتُ – بألمِ المتمسّك بأهمية العربيّة- بقراءة الأدب المترجم بلغته الأصلية أو بترجماته الإنكليزية، أقول: في مثل هذه الأجواء التي يسود فيها الاستسهال ويُحتفى فيها بالضحالة، يغدو الاستعلاء فضيلة لا تُضاهيها فضيلة. قاص أردني هشام البستاني

]]>

m2pack.biz