بين السَّيْف و القَلَم
صلاح بوسريف
ليس المثقف كائِناً مُجرَّداً من الأحاسيس والانفعالات، أو هو كائن يعيش خارج مجتمعه، يقرأ ويكتب، فقط، دون أن تكون له علاقة بالواقع. هذا النوع من العزلة التي نَتَّهِم بها المثقف، أو نُحاوِلُ، وضعَه داخلها، هي من صِفات الصُّوفية، الذين كانوا يعيشون في خُلْواتِهِم، يكتفون بالتَّعبُّد والتأمُّل، والابتعاد عن طعام الناس وأسواقهم اليومية، وهؤلاء، هُم من اتُّهِمُوا، في فترةٍ ما من تاريخ الثقافة العربية، بالاستغراق في الذَّات، في ما كان عليهم أن يكونوا جزءاً من المجتمع، مشاركين، وفاعلين فيه، ما دام أغلب هؤلاء كانوا أصحابَ فِكْرٍ، وكانت لهم رؤيتهم للكون والوجود، ولعلاقة الخالق بالمخلوق، التي كانت غير رؤية الفقهاء، الذين كانوا تابعين للحاكم، ولم يخرجوا عن سلطته، إلاَّ في حالات ناذرة، ومعروفة في التاريخ.
أغلب المثقفين الذين كان لهم تأثير في حياة الناس، أو في عقولهم، بالأحرى، وكان لهم دور في تغيير مجرى النهر، وفي تحليل وقراءة الماضي، في سياق علوم ومفاهيم جديدة، وفي سياق فهم متجدد ومتغير للحاضر، أي في فَحْصِه ومراجعته، أو نقده، في ضوء هذا الماضي، أو بعيداً عنه، وأيضاً، في الكشف عن مواطن الروعة والجمال، ليس في الطبيعة، فقط، بل وفي بعض التفاصيل والأشياء الصغيرة «التافهة»، التي لم نَكُن نعتبرها ذات أهمية، أو أنَّها غير ذات صلة بالجميل والرائع، أغلب هؤلاء المثقفين كانوا يعيشون بين الناس، وكانوا مُدَرِّسين، وأساتذة، ومناضلين، انخرطوا في الحياة السياسية، في وقتٍ ما من حياتهم، ومنهم الذين عاشوا بُسطاء، وكانوا أكثر بساطةً، في خبزهم وفي عيشهم، مقارنةً بغيرهم، ممن لم يكونوا لا مثقفين، ولا مُلِمِّين، حتَّى بأبسط أمور المعرفة، أعني أبجدياتها الأولى.
أنْ نعتبر المثقف شخصاً متعالياً، أو مُتَجبِّراً على مجتمعه، وواقعه، أو أنَّه يستعمل الثقافة كامتياز، أو كبضاعة، فهذا أمر لا يصمد أمام الواقع، أو هو بمثابة الباطل الذي نُلْبِسُه ثوب الحق. ثمَّة من المثقفين من لديهم مثل هذا النزوع، أو هذة الرغبة في أن يكونوا جزءاً من «سوق السلطان»، لكن هؤلاء، بمجرد أن يدخلوا هذه السوق، يصبحون مُهَرِّجِين، و ما يكتبونه، أو يقولونه، يصبح بضاعةً فاسدة، وطعاماً لا يمكن هَضْمُه، لأنهم، ببساطة، تنازلوا عن سلطتهم، في مقابل سُلَطٍ زائلة وتافهة، لا قيمةَ لها، وأضافوا لسلطة الحاكم، سلطة المعرفة، وتحوَّلُوا، بذلك، إلى تابعين، وناطقين باسم غيرهم، يكتفون بما يُمْلَى عليهم، أو ما يُقال لهم، وحتى إذا تكلَّمُوا بلسانهم، أو كتبوا، فهُم لا يعملون إلاَّ على تبرير ما يصدر عن الحاكم من مواقف وقرارات، ولذلك، فهؤلاء، هُم من ينطبق عليهم، قبل غيرهم، قولة علي بن أبي طالب «لا رأيَ لمن لا يُطاع»، ويمكن أن نُضاهي هذه القولة بقولة أخرى، لا رأيَ لمن لا قَلَمَ ولا لِسانَ له.
المثقف الذي يعنيني هنا، هو المثقف الذي يكتفي بالقلم، ويترك السيف لغيره، ممن لا يحيون ويعيشون بدون سيوف، وبدون قمع، وقَهْر. والمثقف، حين يُوازي القلم بالسيف، أو يُحوِّل القلم إلى سيفٍ، فهو يعبر عن فشله في وضع القلم، في مواجهة السيف، أو في منافسته، ومُضاهاته، ناسياً ما قاله الشَّاعر عن جُرْح اللِّسان.
ليس المثقف نبياً، ولا يُرِيد أن يكون نبياً، أو أن يتقمَّص صورة ودور النبي، لأنَّ المثقف هو صاحب رأي ونظر، وفكره، هو فكر نقدي، لا يؤمن بالثوابت، ولا يسعى لتكريس نفسه كحامل للحقيقة، أو كمخلص للناس من الشر، مهما تكن صورة هذا الشر. المثقف هو إنسان، له جرأة في التعبير عن أفكاره، وله قدرة على قراءة الوقائع والأحداث، وتحليل المعطيات، أو الكشف عن مكامن الخير والجمال والمحبة، في ما كُنَّا نعتقد أنه لا علاقة له بالخير والجمال والحب. بعكس النبي، المثقف لا يدعو لعبادة الأوثان، ولا سماء له، سوى ما يكتبه، ويقوله، وهو حُرّ في فكره، وفي رؤيته للأشياء، طبعاً حين يكون صاحب قلَم، أو لِسان، لا صاحبَ سيفٍ، أو سِنَانٍ.
شاعر من المغرب