تاجُ ماء . امبراطور نعم، ولكن!

تاجُ ماء… امبراطور نعم، ولكن!

تاجُ ماء... امبراطور نعم، ولكن!

تسللت إلى مجلس حُكمِه. مثل فراشة لا توقفها الأبواب. بغنَجٍ باكرٍ ماكر. سحبته من بين وزرائه وهم يبتسمون ولا يملكون إلا أن يبتسموا. رغم المستعجلات. مشت به في حديقة القصر بين أزهارٍ من كل أفق. تأملها. نحيفةً رشيقةً وتعجَّب كيف أن هذا المخلوق قد خرجَ من بين صلب جبروته وترائب قسوته وإخضاعه لآلاف القبائل. تقدمته كما لا يجرؤ أحد أبدا. أتت به نافورةً من عجائب الدنيا. أشارت إلى خيوطِ ماء تخرج من مسام مرمر نادر، انفطرت في جلبه أكبادُ الخيل والبغال والحمير والسائقين ومُنشدي الركب. أمرته أن يُمعن النظر. انصاع لها. لا أحد يستطيع أن يأمره بفعلِ شيء غيرُها، ولا ينصاعُ هو لغيرها، كأن قارَّة حُكمه المترامية تحكمها في الحقيقة صبية أو روح صبية.
تأمل الماء يتساقط على المرمر. أمتعَه السحرُ السائل. لا شيءٌ في صورة شيء. هلامٌ، خُلق منه كلُّ حي. حتى الامبراطور نفسه من ماء. ضمها إليه بعطف وحنو وتنسَّمَهَا خفية. ظنها أتت به لتريحَه من إرهاق التأله في الأرض. بينما هي تلح وتشير إلى حبيبات الماء التي كانت تفر في كل جانب عند الاصطدام بالمرمر، وتترك بريقا خلابا لا يضاهيه بريق.
ما زالت تنبهه في كل مرة، وهو لا يفهمُ من إشارتها إلا أنها تُشركه في متعة سحر حلال وتزيح همه. لكنَّ همًّا آخرَ كان يتوجع ويتمخض في جوفها. ثم سحبته من سهوه اللذيذ قائلة:
” – مولاي الأب الامبراطور العظيم أريد منك شيئا لا يعجِز عنه مثلك.
– مُرِينِي يا روح أبيها.
– مولاي الأب الامبراطور العظيم منذ زمن بعيد لم تصنع لي تاجا..”
صعقته.
ولا تاج؟
من أسابيعَ فقط أهداها واحدا من مرجانِ جزيرة مغمورة مفقودة منذ أحقاب. لكن يبدو أن الأميرة فراشةٌ فعلا، وأسبوع الفراشة يساوي سنين.. آه.. الآن فهمَ قلة احتفائها بالتاج على نفاسته. بل غاظها توقيته، لأنها أجَّلَت طلبها تأدُّبًا لأسابيع مرَّت على جمر. لم يدَع الامبراطور قسماتِه تخونُه أو تبدي مفاجأةٍ. ليس له كبير يحكُمه ويأمره ويتدلل عليه سواها، وكم يحتاج الكبير إلى كبير فوقه ولو في صورة صبي صغير..
“- مولاي الأب الامبراطور العظيم، مللتُ تيجاني وأريد تاجا من حبيبات الماء التي أريتك.. وفي أقرب وقت يا أبتي الامبراطور العظيم الذي لا يعجزه شيء..”
هاله الطلب وتردد. امبراطور نعم.. ولكن.. في حدود مهما اتسعت وترامت. وسرعان ما لجمَ تردُّدَه، ووعدها مستسلما لإلحاحها. لم لا؟ أليس هو الامبراطور وبلاده تعج بالصناع المهرة؟ ما يمنع؟ ولو طارت الرؤوس، حتى يظهر صاحبُ الخارقة. بعث في المدائن حاشرين يأتوه بكل صائغ عليم. حتى إذا جُمِع له الصاغة، أمرهم متوعدا مُنذرا من أول لقاء.. فحملق الصاغةُ بعضُهم في وجه بعض حائرين، أنى لهم صنع تاج من حُبَيْبَات ماء. الأمر مستحيل. عَيْنا الامبراطور، نبرتُه، وقفتُه، توتره، كل شيء يقول أن الأمر مستحيل. مع ذلك أدار عِطْفَه وأمر الحرسَ أن يأخذوهم لورشةٍ بجوار القصر لها منفذ محروس لنافورة المرمر حيث حبيباتُ المادة الخام..
***
طلعت شموس وغابت شموس وهم على حالهم. ذهبت شهيتهم وتورمت أجفانهم من بكاء حظهم التعيس. تحسروا على مسارعتهم للخدمة حين سمعوا بمكافأة الامبراطور المغرية. كان من أصحابهم من رأى الفتنة مقبلة فتوارى بمجرد معرفة الزبون الفظيع. مزاجُ الأباطرة قُلَّب خُلَّب وويل لسَعْدٍ قبل سعيد، ولمُحسن قبل مسيء.
وهم على حالهم تلك في صباح يشبه الصباحات السابقة سمعوا طقطقة نعال وهمساتٍ مرعوبة. فإذا بالإمبراطور يطلع عليهم مكفهرا يسأل عن تقدم ورش التاج الأكبر. وجدهم في حالةٍ من اليأس والإحباط يتحسسون أعناقهم وأقفيتهم. يتخيلونها تحت شِفاه السيوف. كانوا يروحون ويجيئون متظاهرين بعمل دؤوب.
لفتَ الامبراطورَ شيخٌ كبير ينظر إليه غير عابئ بالطلب العجيب ولا مُهتزٍّ لحضوره. كان يتبسم بفم طفولي أدْرَدْ. اتبعَ الصناعُ نظرَ الامبراطور، وكأنهم رأوا الشيخ أول مرة. صرخ الامبراطور حانقا مغتاظا من هدوءٍ وسكينة هجرتا فِراشَه الوثير خشية أن يظهرَ بمظهر العجز:
“- أنت.. أنت.. ستصنع تاج حبيبات الماء.. أنت!” أجابه الشيخ بهدوء: “- أمرُك يا مولاي وبحضورك.. وكنت أنتظرك.. لا يصح صنعه في غيابك.. مع ذلك لي طلب صغير”.
أمره أن ينطق دون تأجيل. مهما يكن فلن يعجزه:
“- أريدك سيدي أن تنادي الأميرة كي يزيد فرحها أننا على أهبة الاستعداد لصنع التاج العجيب..”
حالا حضرت الأميرة تكاد أساريرها تتفتق كفجر قطبي كاذب. هي كذلك لا تصدق نفسها وطلبَها. ربما.. أخذها الشيخ إلى النافورة وقال:
– الآن سنبدأ العمل.. ولن تغرب شمس اليوم حتى يكون التاج على رأسك، ولكن بشرط صغيرتي.. كما ترين أنا شيخ كبير وهن عظمي وظهري يؤلمني بطول الانحناء، وبصري قد نقص.. فأريدك أن تشفقي من حالي يا أميرتي الجميلة وتمدي لي يد العون بأناملك اللطيفة الصغيرة، أريدك أن تجمعي لي حبيبات ماء صغيرة في حجم صغار العقيق”.

m2pack.biz