تخليد النصوص
[caption align="aligncenter"]تخليد النصوص[/caption]وصلتني منذ أيام من قارئ صديق، رسالة قصيرة ذكر فيها أنه وبعض زملائه من محبي الآداب، بصدد افتتاح مقهى صغير يحمل اسم نص من نصوصي الروائية، صدر منذ عامين، تخليدا لذكرى شخصية رئيسة من شخصيات النص، ارتأوا جميعا، أنها تستحق التخليد. كان خبرا جيدا في الحقيقة بالنسبة لي، ليس لأن شخصية متخيلة، أو لنقل شخصية تم جلبها من الواقع ووظفت في نص متخيل، وجدت كل ذلك التعاطف الذي قد يؤدي لتخليدها، ولكن لأن الموضوع في النهاية، كان أدبيا، وعلى الرغم من ذلك، تم التفاعل معه بصورة لم أكن أتوقعها، ومعروف أن الآداب بصفة خاصة، من أكثر الحرف التي لا تلفت النظر في عالمنا العربي، وكثير من النصوص الأدبية التي يعتز بها كتابها ويتوقعون أن تسطو على أمزجة الناس، لا تجد أي تفاعل قرائي، ناهيك عن تفاعل مؤثر يجعل شخصياتها جزءا من معطيات الحياة، وعناوينها التي على الأغلفة، عناوين لأبنية مشيدة بحق على نواصي وداخل أسواق، ويمكن أن تجد زبائن يهشون لها. المغزى هنا، هو تكريم الأدب إذن، وبطريقة واضحة ومكلفة، ولطالما تأملت شخصيات كثيرة وردت في كتب مختلفة قرأتها على مدى سنوات طويلة من اشتغالي بالقراءة، تستحق أن تخلد وعناوين لكتب تستحق أيضا أن توضع على لافتات مضيئة، في الشوارع وأعلى سطوح البنايات، وحين أمر في شوارع مختلفة في أي بلد وأجدها مسماة بأسماء سياسيين، اقتحموا الصيت ذات يوم وغادروا بلا أي تعاطف شعبي، أو لاعبي كرة تقافزوا في الميادين وذهبوا، أو أي شيء آخر، ولا أجد اسما واحدا لشاعر كبير أو روائي أثرى المخيلات بإبداعه، أتحسر كثيرا، وإن كان ثمة أدباء قليلون، وجدت أسماؤهم طريقها إلى تسميات الشوارع، ولكن الأغلبية لم تحصل في الحقيقة على شيء على الرغم مما قدمته. من الممكن جدا أن يكون المقهى الذي سيفتتح باسم الرواية التي ذكرتها، مقهى عاديا من حيث تقديمه للخدمات التي تقدمها المقاهي، ومن الممكن طبعا وبقليل من الجهد أن تستحدث فيه مكتبة تضم مختارات من الأعمال العربية والأجنبية، وأيضا الكتب الفكرية، لتحويل الجلوس فيه إلى جلوس لطلب المعرفة إضافة للعمل العادي، وهنا ستكون الفائدة كبيرة بالفعل، إن استوعب الزبائن الفكرة، وتعاونوا لجعلها حية، لكن لا مشكلة أبدا إن ظل مقهى عاديا، يحمل الاسم فقط، سيكون المغزى قد تأطر بلا شك، وأذكر حين جلست على مقهى خان الخليلي، في مصر، وكانت ثمة فرقة تعزف، ومغن يترنم بأغنيات زمن بعيد جميل، أحسست بوجود جو نجيب محفوظ، أحسست بوجوده بالفعل، ذلك أن إيحاء المكان والفن المطروح، إضافة إلى صور قديمة معلقة على الحيطان، أوصل مغزى الاحتفاء جيدا، وحقيقة أدباء مثل محفوظ، ويحيى حقي وتوفيق الحكيم، وحتى عبد الحكيم قاسم وجمال الغيطاني، والطيب صالح، لا تستوعب مكانتهم مقاه أو مكتبات تسمى بأسمائهم، هم يحتاجون لمتاحف، تهتم بحياتهم كلها، منذ أن ولدوا ونشأوا واستوحوا الجمال وكتبوه لنا أدبا إنسانيا رائعا. وشخصيا أرى أن تسمية الشوارع بأسماء أدباء، التي تأتي دائما متأخرة، أي بعد أن يرحل الأديب عن الدنيا، وفي قلبه مرارة ما، كان من الممكن أن تحدث وهو حي ليرى أثره بنفسه، ودائما ما أردد أننا نمارس حرفة معنوية في الأصل، يمكن الاستمرار فيها باستمرار المعنويات مرفوعة، ونتوقف حين تهبط تلك المعنويات أو تموت بفعل مؤثرات خارجية من هنا وهناك، أنا أؤمن بذلك وتجدني منساقا لتلك الفكرة، وبذلك لا أهتم إن حصل كتابي على تقدير مادي أو لم يحصل على الإطلاق. في مرة كنت أجلس في مطار ضاج، أنتظر رحلة إلى بلد عربي من أجل لقاء ثقافي، كنت منغمسا في الأفكار، وفي ذهني مسودات منجزة لعمل كتابي، تنتظر أن تخرج من الذهن إلى الورق، تلك اللحظة انتبهت إلى من يهتف باسمي، وكانا شابين من تشاد كما اتضح بعد ذلك، وضحا لي بكثير من الاعتزاز أنهما من قرائي وقراء آخرين من أمثال عبد الرحمن منيف، ومحمود درويش، ويعثرون على الكتب العربية من موزع صغير يأتي بها إلى نجامينا عاصمة بلدهم. كان يوما سعيدا بالنسبة للمعنويات، حلقت إلى بعيد، لم يكن هناك حصاد من أي نوع، وفقط حصاد الغبطة، أن ما تكتبه قد يصل إلى بلاد لا تتوقع أبدا أن يصلها. بالنسبة لإنشاء جوائز بأسماء أدباء، وبثها في الحقل الثقافي، وترك الناس يتنافسون عليها، هذه أيضا فضيلة ينبغي أن لا تؤخذ باستهتار، أكثر من ذلك أتمنى أن ترفع قيمة الجوائز التي تمنح بأسماء كتاب كبار، إلى أعلى سقف، ولا تترك مجرد جنيهات قليلة لا تسعد الكاتب الذي قد يفوز بها، أيضا ينبغي في كل منافسة تحمل اسم كاتب أن يتم اختيار محكمين بارعين ونزيهين، ويكون الفوز مستحقا للجائزة، لا مجاملة، كما نراه يحدث في كثير من المسابقات العربية، خاصة إن كانت لجان تحكيمها معروفة وثابتة، وكنت محكما مرة في جائزة من هذا النوع، ولم أجد نصا بقوة اسم الكاتب الذي وضعت المسابقة باسمه، وفكرت أن أوصي بحجب الجائزة، لكن في الوقت نفسه كان الحجب بمثابة منع نصوص لا بأس بها من الظهور، وكسر لخاطر كتاب سيتطورون وسيكتبون بطريقة أفضل لو منحوا جوائز مثل هذه. بالنسبة لوجود الكتب في المقاهي، سواء أن سميت تلك المقاهي على أسماء كتاب أم لا، هذه ليست مسألة جديدة، وفي كل بلد تقريبا، تجد عددا من تلك المقاهي المكتبات، وكنت جلست مرة في واحد منها، أراقب الوجود الضاج للجالسين وأنهم متكئون بحماس على الثرثرة والتدخين، ولا يد تمتد لتناول كتاب حتى بدافع الفضول، لقد كانت مكتبة أنيقة في ذلك المقهى، وفيها مؤلفات لدان براون وستيفن كنج، وموراكامي، ومستغانمي، وغيرهم كثيرون، فقط لا يبدو الجو العام جو معرفة، معرفة ولا تبدو القراءة هنا حتى لو أراد أحد طرقها، ستدخل الذهن أو تعمر فيه إن دخلت. المقاهي المكتبات إذن ينبغي أن تكون بجسد خاص، مفصل إلى أقسام، ويكون فيه قسم المكتبة منفصلا تماما عن قسم الثرثرة والضجة، هنا يستفيد الذي يأتي بحثا عن الفائدة. أعود لفكرة الخلود التي تلتصق ببعض الشخصيات الروائية، ولا تلتصق بأخرى، بمعنى أن هناك شخصيات تحس بأنها ستبقى طويلا بمجرد أن تلتقي بها في نص، أنت تتفاعل معها بتلقائية، تكلمها وتحس بكل إحساسها، بينما أخرى حتى لو كانت رئيسة ومرسومة بدقة، لا تبقى طويلا في الذهن، هي مسألة جاذبية لا أكثر، جاذبية قراءة النصوص نفسها، حيث هناك من ينجذب لنص ولا ينجذب لنص آخر، ولتستمر القراءة في هذه الحياة المعقدة، ينبغي أن يستمر التذوق مختلفا وعميقا في اختلافه. أنتظر مقهى النص إذن بدافع الفضول، لأرى هل ثمة من يأتي انسياقا وراء العنوان، أم يأتي الناس بعادة المجيء إلى المقاهي لممارسة هواية الخروج من المنازل، والجلوس في أي مكان. روائي سوداني
]]>