تذكّر نصف محايد لجوزيف سماحة
أتذكر كلمات جوزيف سماحة، مكتوبة بخطّ يده، أو أنني، فيما أقرأ مختارات من مقالاته أعادت نشرها جريدة «الأخبار»، أروح أُخرجها من حرفها المطبوع وأعيدها إلى الحبر العادي الذي خطّه بها قلمُه. هناك أشياء يجب ألا تموت، أو تنسى، إن أردنا أن نبقي الصديق كاملا في ذاكرتنا. الكلمات المكتوبة ليست بين أصعبها على أيّ حال فالخطوط، البالغة الكثرة طالما أن لكل امرئ خطّه، لا تتداخل ولا تتزاحم ولا تنحرف بنا إلى أن نشتبه فيقول أحدنا إنه محتار بين أن يكون هذا خطّ فلان أو خطّ فلان. أعيد إذن كلمات جوزيف إلى خطّ يده الذي، وإن كنت أستطيع الآن أن أستعيده كما كان على الأوراق، إلا أنني لا أستطيع وصفه. من يستطيع أن يصف ذلك التشكيل المفرط في عاديته وسريته معا؟ كما أنني، أيضا، أعجز عن وصف تلك الإطراقة في الصورة التي تظهر جوزيف منكبا على الورقة أمامه، أو ماشيا بين آخرين في ممشى الجريدة الضيّق، أو مبتسما تلك الابتسامة في الصورة التي التقطها له مصوّر الجريدة سنة 1979 في شارع عريض في إيران، أو أن يعيّن ما الذي يجعل من جوزيف قريبا وفاتنا ومحبوبا، وحاضرا أيضا، وما الذي يبقيه كذلك، الآن، بعد عشر سنوات على رحيله.
كل من أصدقائه الذين اجتمعوا لذكراه، بعد السنوات العشر، أبقى جوزيف «ه» بينه وبين نفسه. ليس فقط لأن الكلام يعجز عن وصف السريرة، بل لأن هذه لا تدرَك غالبا حتى من صاحبها. سيكون عليهم أن يكتفوا بالحكايات التي عايشها كل منهم، أو كان شاهدا عليها. وأحسب، أنا الذي كنت حاضرا بينهم، واحدا منهم، أن التذكر لم يفلح، إذ لم تكتمل حكاية أو طرفة ولم يتلقّ قائلها الاستجابة التي كان ينتظرها، أو كانت هذه المرويات تتوقّف في منتصفها، لأن قائلها أدرك أنها لن تفلح في الوصول.
تلك «البطولة» التي من نوع ما تصنعه الروايات لشخصياتها، لم تتحقّق، أو لم تحقّق نفسها، في تلك السهرة. ظلّت في ما لم يُقل، في ما يعرفه كل من الحاضرين، أو يحسّه، لكنه لا يحسن قوله. هي بطولة لم تكتمل ولم تُوَلّف. بقي نصفها، أو أكثر من نصفها في ذاكرة الحاضرين الذين أدركوا أن الكلام ممكن عن تجارب جوزيف في السياسة والصحافة، لكنه ليس كافيا على رغم النجاح والشهرة اللتين تحققا له فيهما. في هاتين يمكن للكثيرين أن يشاركوا، وأن يحقّقوا إصابات فيهما، رغم التناقض بين آرائهم. لكن ليس من أجل هذا جاؤوا، هم أصدقاء جوزيف، أو بحسب ما بات معروفا، جماعة صداقته.
صداقته هذه تبقى ملازمة لكل ذكر له، حتى إن كان الكلام جاريا على أسلوبه في الكتابة الصحافية وعن إدارته المبدعة لفريق عمله، وكذلك عن ذكائه وسعة معرفته بما كان يجري في العالم حوله. هو نفسه كتب مرّة، وقد أعيد نشر ذلك في مقتطف أعادت نشره جريدة «الأخبار»، «ويل لمن يشرد برهة أو يؤجّل عمل اليوم إلى الغد. حتى الإجازة بات من المستحسن قضاؤها حيث تدور الأحداث». وفي خضم ذلك لن ينسى المعلّق أن يذكر، وهذا ما حصل في أكثر ما كتب وقيل عن جوزيف في أيام الذكرى العاشرة هذه، كيف كان في دراسته وفي رياضته شابا وكذلك في بيته وكذلك ما فعله أخوه لتعليمه وكيف أعالته أمه بما يشبه طبخة البحص بحسب قول أحدهم، وأيضا تعلّقه بالنساء وتعلٌّق النساء به، وهل كان عاشقا أو معشوقا، وكيف تذكّره جيرانه في الأشرفية بعد سنوات من انتزاع بيت الأهل منه ومن أمه وأخيه (وكان صديق قريب له قد قال لي مرّة كيف أن معرفته بهذا البيت تتيح له أن يكتب عنه كتابا كاملا)، وكذلك عن حضوره في منامات أصدقائه ومتذكّريه. وكان ذلك مجرّد عناوين لقابلية جوزيف إلى أن يُروى عنه إلى حدّ أنه يبدو، كما لو أن هناك ميلا لدى الجميع إلى دعوة من لديه شيء يُروى عن جوزيف فليقله.
تلك ميزة لا تشمل الجميع. لم يحظ أي من الصحافيين بها، وكذلك أي من السياسيين ولا أي من أصحاب الصداقات، بل إن الكتاب أنفسهم، أولئك الذين يؤلّفون الشخصيات أو يصنعونها، ظلت حياة أكثرهم مجهولة خلف أقلامهم وأوراقهم. قليلون منهم من أوتي حظّ أن يكون هو نفسه بطلا، من كانت حياته، أو عيشه لحياته، هي في إبداع كتابته وفتنتها. سكوت فيتزجرالد واحد، أرنست همنغواي واحد آخر استحقّ ذلك إذ كان له من نفسه وحياً لأبطال رواياته. كان بطلا لهم، بطلا بموازاتهم، بل كانوا هو نفسه في أحيان (على مثال ما كان فرانسيس موكمبير صائد السود والثيران في القصة التي تحمل اسمه).
الكتّاب في العالم جميعه يتساءلون عن ذلك الذي يجعلهم حاضرين هم أنفسهم وليس فقط الشخصيات التي أحيونها، وهم يتوصّلون إلى أن ذلك سرٌّ لا يُدرك. ليست العشر سنوات كثيرة، لكننا ما نزال نشعر بالقرب ذاته من جوزيف، وما زال ما نرويه عنه أقل مما نتذكّره ونحسّه. كأننا نستمر في صداقته بعد موته، لكن كما يمكن لهذه الصداقة أن تكون. أحد من شاركوا في الكتابة عنه ذكر كيف أنه يراه في منامه، دائما أمامه أو إلى جانبه، وصامتا لا يتكلم. لكنه، هو الكاتب، لا يقول له : «تكلم، قل شيئا»، لأن ما يأتيه يكفيه وهو راضٍ به.
روائي لبناني
حسن داوود