تسريد العرفان بين روايتي «جبل قاف» و«موت صغير» .. صورة محيي الدين بن عربي في الرواية
يكاد يكون محيي الدين بن عربي من أبرز الشخصيات الصوفية التي حظيت باهتمام الروائيين، نظراً لغزارة إنتاجه الفكري، واختلاف الآراء حوله بين منكر ومؤيد. كما أنه صاحب أكبر موسوعة صوفية نثر فيها آراءه الصوفية، وهو ما جعل إغراء الكتابة في سيرته أكثر جاذبية.
من الدائرة الوجودية
يرى ابن عربي الوجود بنية دائرية ذات مركز محيط، يقول: أعلم أن العالم لما كان كرويّ الشكل لهذا حن الإنسان في نهايته إلى بدايته، فكان خروجنا من العدم إلى الوجود به سبحانه وإليه نرجع كما قال عز وجل: «وإليه يرجع الأمر كله». وهو تصور يجعل البداية تلتقي مع النهاية والوجود بالعدم، لأنه إن لم يكن الأمر كذلك لكانت الموجودات إذا خرجت من عنده خطا مستقيما لم ترجع إليه. ولكنها لا محالة راجعة إليه مصداقا لقوله تعالى: «وإليه ترجعون».
معالم التخييل العرفاني
تقتطع الروايتان مادتهما من تاريخ الموحدين في الغرب الإسلامي والأيوبيين في الشرق والسلاجقة. غير أن التخييل في رواية «جبل قاف» ينحو نحو استثمار السيرة العرفانية للشيخ الأكبر، من خلال ملاحقة ترقيها الروحي من مقام التخلية إلى مقام التحلية، وصولا إلى قمة جبل قاف (جبل المعارف)، مراعيا في ذلك المطابقة بين محطات تحصيل المعارف اللدنية واستثمار الأسرار العلوية مع السيرة العرفانية للشيخ الأكبر في البناء الفني، مع ملء البياضات التاريخية بكتابة نورانية تعطي للأحوال والمواجيد والأذواق إمكانية الامتداد والسريان على الذوات القارئة، والتماهي مع السيرة العرفانية عبر الدفع بها إلى أقصى احتمالاتها التخييلية الممكنة.
في «جبل قاف»: من مقام إلى مقام
غير أن تسريد العرفان جعل تطور الأحداث يتخذ مسارين مختلفين: ف»ابن العربي» في «جبل قاف» من خلال بحثه عن الحقيقة الوجودية، يتوخى تجاوز زيف الوسائط التي تعمل على نقلها، وفي مقدمتها اللغة. وذلك من خلال استدعاء دلالاتها الوجودية في حضرة الخيال العرفاني، فهي ليست مجرد أبجديات تداولية فقط، وإنما هي أبجدية سالكة تتناسل من طاقتها الروحية كل عناصر الحكاية والخطاب.
في «موت صغير»: حكاية
أما رواية «موت صغير» فإن بنية الرواية تتطور من خلال حافز أساسي وهو البحث عن الأوتاد التي تثبت قلب السارد، وتتخذ السياحة طابعا معكوسا في علاقتها بالمرجعية الواقعية؛ لأن السارد لا يحمل العلوم والأسرار من المغرب إلى المشرق، بل على العكس من ذلك فهو يبحث عنها في المشرق. تخبر فاطمة بنت المثنى ابن عربي، بعد الخروج من مرسية، أن وتده الأول ينتظره في إشبيلية، وما عليه إلا أن يطهر قلبه لكي يتعرف عليه. ولكن ابن عربي ينغمس في الغفلة مما يبطئ ظهور وتده الأول، فيذهب إلى فاطمة بنت المثنى ليستفسرها عن سبب ذلك، رغم أنه طهّر قلبه، وحمله على مكارم الأخلاق، وصفاء السريرة، وحسن النية، حتى صار رافضا كل صورة غير ذلك. فتخبره أن قلبه لن يكون طاهرا بما فيه الكفاية حتى يُصيّره قابلا لكل صورة. فما كان منه إلا أن دخل في خلوة في المقابر، وانقطع للذكر إلى أن التحق به الكومي في ليلة السابع والعشرين من رمضان وأخبره بأنه وتده الأول، وأن وتده الثاني موجود في مراكش.
تسريد العرفان
هكذا يتضح أن السرد يتخذ مسارين مختلفين في كلّ من الروايتين؛ فابن العربي في «جبل قاف» يستكمل ترقّيه الروحي في المغرب لينتقل بمعارفه إلى الشرق، بينما يظل ابن عربي في «موت صغير» في مقام التلوين حتى يلتقي بوتده الرابع شمس التبريزي لتترسخ قدمه في الولاية، وينتقل إلى مقام التمكين. وهو ما يجعل الروايتين تشتغلان وفق منطق مختلف للحالات والتحولات، ذلك أن الفعل السردي الذي يعد سندا للحدث، حسب بعض المنظرين، لا يمكن أن يُستوعب إلا داخل إطار زمني يتتبع تغير وضع الشخصيات وعوالمها الدلالية المحينة والضمنية.
٭ كاتب مغربي
عبد الإله البريكي