تعارض الرواية والواقع
[caption align="aligncenter"]تعارض الرواية والواقع[/caption]كيف نُرتِّب العلاقة بين الرواية والواقع، التي صارت من كثرة الاستعمال متّصفة بالالتباس؟ لنُقرِّر منذ البداية أنّها ليست علاقة مُباشرة، كما أنّهُا مُركَّبة وفق مستويات مُتضافرة، وهي الواقع والواقعي والبنية التمثيليّة والتحبيك. وسنحاول في مُعالجتها التغاضي عن تبريرها معرفيًّا على نحو مُستفيض؛ وسنكتفي بالإشارة المُقتضبة إلى هذا التبرير فحسب في ثنايا الطرح الذي نبنيه. كما أنّنا لن نفصل في بناء المستويات المذكورة تحديد المفهوم الرئيس الذي تقوم عليه وعلاقته بغيره. وإذ نروم تحقيق هذه المهمّة سنعمل على الانطلاق في التفكير فيها من مقتضيات التخييل الروائيّ، لا من اقتضاءات معرفيّة برانيّة؛ أي بنائها من متاح التفكير الأدبيّ. ليس الواقع مادّة فيزيائيّة (الوضعانية) أو مجموع علاقات اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة (السوسيولوجيا)؛ وليس الأشياء والموضوعات التي تعرض نفسها على شاشة الوعي، وينتج عنها إدراك مُعيَّن (الظاهرتية). والسبب في هذه الاعتراضات هو أنّ الواقع يُعَدُّ من جهة مبنيًا في حالة النظر إليه من الزاوية المادّيّة، ويُعَدُّ من جهة ثانية قائمًا على أساس أنثروبولوجي؛ وهو مبني لأنّ تشكيله يُعبِّر عن تطلّعات (البيت = السكن)، وأنثربولوجيٌّ لأنّه يختلف حسب أنماط العيش المُتّصلة بتنوّع الثقافات (بناء البيت وفق حاجات ووظائف ثقافيّة = مالونوفسكي). ومن ثمّة يُعَدُّ الواقع مادّة مبنية، وليس مُعطاة ومُستقرّة ومُوحَّدة. وأهمُّ ما يُمْكِن التقاطه في فهم الواقع الموصوف على هذا النحو- بالنسبة إلى الرواية (والسرد عامّة)- كونه بناء قائمًا ومُتحقِّقًا يُترجم تطلّعات تتّصل بالعيش غير مُقتنع بها، وموضوعة موضع ريبة أو عدم كفاية ونقص. لكن ينبغي تمييز الواقع- ونحن نصفه على هذا النحو- عن الواقعي؛ فهما لا يعنيان الشيء نفسه؛ فالثاني لا يعني مُعطى مبنيًا بقدر ما يعني ما يقبل أن يكُون واردًا في إطاره؛ أي ما لا يخلق مُشكلة في تصوّره بوصفه موضوعًا أو حدثًا يجري وفق مُقتضيات الواقع، كما هو مدرك من قبل الجماعة الاجتماعيّة على مُستوى العيش، ويترجم الواقعي في الرواية بكونه ما يُمْكِن تصديق وجوده (هوية الذوات والموضوعات) أو حدوثه (الأفعال والأحداث) وفق عالم موسوعيّ ما (أمبرتو إيكو). وينبغي- في هذا النطاق- تمييز الواقع والواقعي من الوقائعي factuel الذي يُشير إلى الحدوث الحقيقيّ (أحداث تاريخيّة أو شخصيّة). لكنّ مظهر الواقعي يتّصف في الرواية بكونه مجالًا من الإدراك يُوضع في قلبه الفعل الروائيّ؛ حيث تفترض صيرورة هذا الأخير أن يكُون مُغايرًا لهذا المجال؛ إذ لا تكُون الشخصية الروائيّة مُستحقّة وصفها هذا إلّا بما تُبديه من استثناء في فعلها، ومن جنوح عن الواقعي بوصفه أفقًا مُنتظرًا. ومن ثمّة يُعَدُّ هذا الفعل مُخيِّبًا للواقعي، ومُخيِّبًا لأفق الانتظار. وهذه الخيبة هي التي تصنع الخاصّية الجماليّة للرواية في تضافرها مع باقي المُستويات الأخرى، بخلاف السرد العريق الذي يحدث فيه التطابق بين الواقعي والفعل استجابة لتأكيد صلاحية المُتعالي الثقافي- الأنثروبولوجيّ (الاعتقادات والتصوّرات حول بناء النظام الاجتماعيّ والعيش داخل مُتاحه). ولا يُمْكِن فهم الواقعي في الرواية – وفق هذه الرؤية- إلّا بوصفه ما يُوضع موضع مُعارضة ورفض ونفي، ولا سبيل إلى جعله مُؤكَّدًا ما دام يُنظر إليه بِعَدِّه مُناقضًا لسعي الذات الروائيّة الذي يُشبه المشي في الاتّجاه المُعاكس في طريق ما. ومن ثمّة يُمْكِن عَدُّ علاقة الفعل الروائيّ بالواقعي مُتَّسمة بقدر من الخرق الذي يُترجم تطلّعًا جنينيًّا يُعبِّر عن الإحساس بكون الواقع مُستّمًا بالنقص، وعدم وجود ما يضمن فيه الكفاية على مُستوى الرغبة. وينبغي التنبّه إلى أنّ العلاقة غير المُباشرة بالواقع (الموضوعات) هي ناجمة عن توسّط الواقعي الذي يزخر بما هو رمزيّ؛ أي بالتقنين للأفعال الذي يمنحها طابعا تخلّقيًّا (الممنوع والمُباح). ويكُون الجهد في الرواية مُوجَّهًا نحو رفع هذا التوسّط الرمزيّ من طريق خرق النواظم التي يتأسّس عليها. ولا تتّضح الرؤية إلى علاقة الرواية بالواقع والواقعي إلا في النطاق الذي يتّصل فيه هذان الأخيران بالبنية التمثيليّة التي تُميِّز التخييل الروائيّ. وتكمن العلّة في هذا الربط في كون هذه البنية تتعارض مع تطلّبهما؛ فهي تتأسَّس من جهة على تجسيم الحدوث المُتعلِّق بكلِّ حياة فردانيّة مع نشدان توافق مُتعذِّر مع العالم، ومعنى هذا أنّ الواقع هو مُجزّأ وعبارة عن قِطَعٍ غير مُتّسقة؛ أي أنّه يتميّز بالشتات، وهو يناقض بهذا سعي الفعل الروائيّ الذي يقوم على البحث عن كلٍّ ما يتجاوز الطابع المُشتَّت للواقع. كما أنّ الواقعي نمطيٌّ من حيث كونه يخضع لحبكات الواقع (نماذج السلوك وتحقيق الأهداف)؛ ومن ثمّة فهو مُعارض لطبيعة الفعل الروائيّ الذي يتّصف بكونه يُمثِّل انزياحًا تُجاه كلّ حبكة واقعيّة، بما يتّصف به من استثناء عائد إلى الطابع الفردانيّ المُميِّز للشخصية الروائيّة التي تجد ضالّتها في التعبير عن وعيها الخاصّ الذي لا يتطابق مع وعي الجماعة. يتبيّن- إذن- أنّ الواقع في الرواية هو مادّة مبنية تتصل على مُستوى الكتابة بالوصف والمكان، بينما يُعَدُّ الواقعي- بوصفه نمطًا من التوقّع لما يحدث وفق نماذج الفعل التي تزخر بها الحياة العاديّة – مُتّصلًا بما هو حدثيّ في الرواية. هكذا تصير بنية التمثيل في الرواية ضرورة لفهم الطريقة التي يتعالق بها كلٌّ من الواقع والواقعي مع التحبيك؛ فإذا كان هذا الأخير يُعَدُّ الكيفية التي تُصاغ بها الحبكة من قِبَل كاتب مُعيَّن من طريق مُغايرة حبكة الواقع العاديّة ومغايرة التقاليد في بناء الحبكة بوساطة تخييل أشكال جديدة لها فإنّ ما يُوضع بوصفه بديلًا موازيًا (أو معادلًا تخييليًّا) للواقع هو واقع الكتابة الذي يصير المُمكن الذي يُؤشِّر على واقعي آخر هو فعل الكتابة نفسه. ومعنى هذا أنّ هناك توازيًا في الرواية بين الجنوح نحو خرق الواقعي على مُستوى فعل الشخصية (الذات) الروائيّة وخرق نماذج التعبير (الكتابة). يتجلّى هذا الخرق بوساطة التحبيك الذي يأخذ على عاتقه مهمّة الفتك بكلّ الأشكال النمطيّة المُكرَّسة، بما في هذا الأشكال الروائيّة. والسبب في هذا النزوع إلى تجديد التحبيك ماثل في كون الواقع الحديث (خاصّة المُعاصر منه) هو في حالة تغيّر مُتسارع لا يكفّ؛ الشيء الذي يفرض على الكتابة بوصفها واقعًا مُوازيًا تغيير طبيعتها حتّى تكُون أَقْدَرَ على نفي الواقع والواقعي. أديب وأكاديمي مغربي
]]>