تغريبة في فصول من الوطن إلى الوحل الأوروبي وما بينهما… «نوم الغزلان» عرض مسرحي يكثِّف المأساة السورية
بيروت «القدس العربي»: «نوم الغزلان» تغريبة سورية أفسحت حيزاً للتعبير عن ذاتها عبر عرض مسرحي جمع بين سرد نصوص لفرج بيرقدار كتبها لابنته، وأخرى لياسين الحاج صالح كتبها لزوجته سميرة خليل المختطفة منذ 2013 مع رزان زيتونة ونظام ووائل حمادة. للكاتبين السوريين كتابات معروفة، لبيرقدار «تغريبتي في سجون المخابرات السورية» ومنه قُرئت نصوص، وقُرئت أخرى لصالح كتبها لزوجته المختطفة منذ عامين. شهادات على عنف السجون السورية، تتداخل مع رحلات «الموت الشاق» عبر البحار، والشوق المضني للأرض والوطن و»مجدرة الثورة». عرض بدأ على خشبة مسرح أروين في الجامعة اللبنانية الأمريكية قدمت خلاله المخرجة والأكاديمية لينا أبيض سرديات نعرفها أو عايشنا بعضها من ذاك القهر والسحق الإنساني، الذي يختبره النازح السوري. قهر مُثبت وموثق، النازح السوري الذي حلّ عند أبناء جلدته في لبنان أو الأردن، أو لدى الجيران. موته اليومي التدريجي دفعه لاختيار لعبة الروليت، إنما مع أمواج البحر العاتية، ومهما كان نوع «النوّة».
يُعرف أن الغزال ينام بعينين نصف مغمضتين، ولماذا وقع الاختيار على عنوان نوم الغزلان؟ تقول لينا أبيض في كتيب المسرحية: «.. يمكن أن تكون رمزاً لنوم الذين يعيشون في ظل أنظمة الاستبداد.. قسوة النظام.. جعلت السوريين ينامون مفتّحي العيون طوال عقود.. واليوم لا ينام السوريون نوماً عميقاً..». هذا ما وصلنا ببلاغة مشغولة من لحم ودم عن حال السوريين، ومعهم اللاجئون الفلسطينيون في سوريا. مشهديات تقاطعت بجمالية فنية بين نهاية، وبدء، وعودة إلى النهاية أو المتن. وتداخلت بين شعر ونص وطموح ومناجاة، وتهديدات المسؤولين في بلدان اللجوء. لوحات مسرحية نابضة حاكت وجعاً ينتشر في كل مكان منذ خمس سنوات وما يزال.
هو عمل فني جماعي بمشهدية غنية، حركة، لوناً، جمهوراً ومؤثرات. مشاهد تفوقت في لحظات على المشهد التلفزيوني، واقتربت من لقطة سينمائية. مسرح استنهض شغلاً مركزاً في الاضاءة والسينوغرافيا. هي جلجلة بشرية يسيل منها الوجع، هكذا وصلتنا وبصدق. لحم سوري يُسحق في سجون الوطن. ولحم سوري برهافة الياسمين الشامي يُعرض لمن يشتهي بشفاعة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». واللحم السوري الطامح للحياة بعيداً «من عيشة الذل» يصبح طعاماً شهياً للأسماك قريباً من شواطئ اليونان. وفي كل الحالات ينبت المستفيدون كالفطر ومنهم ابناء الوطن، في بيع اللحم الندي، أو في تجارة الموت عبر البحار. والأدهى رغبات وتوسلات لله بأن يديم النعمة، كان مقيتاً مشهد القوادة، والقبطان الذي صار قلبه بقساوة الياطر.
حاكت ابيض سرديتها باختيارات ذات دلالة مؤثرة. الوجع سوري أساس، ووجع الضيف الفلسطيني أتى في المقام نفسه. هو الشاب الفلسطيني النازح من سوريا إلى لبنان، يروي جزءاً من تغريبة جده في اللجوء والأمل والهوية وجواز السفر. ويتابع مع تغريبته الخاصة، ويتشارك فيها مع السوريين بالتمام والكمال وربما أقسى. ورغم انغماس النص والعرض في التراجيديا نصاً ومشهداً وصلنا أنينه مرات، فالشاب الفلسطيني السوري لا يذكر من إيجابيات لجوئه في لبنان سوى أنه أحب الشابة الأمريكية جيسيكا.
روايات ذات دلالات وصلت من بلدان اللجوء. قلق، أرق، «هون ومش هون»، عيون مفتوحة، نشيج صامت لرب الأسرة. هي لحظة الانهزام المطلق التي تداريها الزوجة، فلا تلحظها لتبقى صورة الرجل لديه ولو ظاهريا. لكن الصور والأيقونات جميعها تحطمت. تحطم السند إما في الطريق إلى حيث اللجوء أو لدى بلوغه، فالغربة مقيمة في النفوس، والموت يدنو ويبتعد كأنه في لعبة «غميضة» في البحر أو البر. وهذا ما بدا في مشهد الرجل المنحني الذي يمشي ذهاباً وإياباً من قمة الجبل إلى أسفله، هو سيزيف من دون أن يحمل صخرته.
مشهديات التغريبة السورية بمراحلها المتعددة شكلت ثقلا في عرض أبيض، حيث أولتها عناية دقيقة للغاية، وهي تُختصر بمحطات. بدأت تلك المحطات من سجون الوطن، إلى سجون النزوح وإن اختلف الطعم واللون. مشهد ركوب ما يشبه المركب. مشهد القبطان الذي يتحول في لحظة إلى قرصان. مشهد الرعب في البحر، موت البعض ونجاة آخرين. إلى الشاطئ والرحلة الشاقة عبر الوحول الاوروبية. اقفال الحدود. الكلاب البوليسية. إنها التغريبة السورية حقاً. يقول ممثل «مع كل ذكرى للثورة نطيل حبل الأمل». متى نهاية التغريبة؟ لن تكون حياة من دون فسحة أمل. يذكر أن «نوم الغزلان» عمل مسرحي أكاديمي من تمثيل الطلاب في الجامعة اللبنانية الأمريكية.
زهرة مرعي