ثرثرة بنكهة روائية
في حوار ربما كان الأطول والأطرف مع إرنست همنغواي يقول هل تذهب لمشاهدة السباق؟ وتقرأ لائحته… هناك تجد الفن الروائي الحقيقي، وقد تكون هذه السخرية المشوبة بقدر من الجدية تعبيرا عما ردده همنغواي مرارا وهو أنه لا يكتب إلا ما يعرف وما يجرب، لهذا فإن ما يتقاضاه من أجر هو مقابل ما يسميه تحطيم الأشياء الثمينة التي يمتلكها وبالتالي تصبح الكتابة في حدّ ذاتها تدميرا للذات، وقد انتهى الأمر بالنسبة لهمينغواي بأن انتحر وكأنه يستكمل مشروع تحطيم الأشياء الثمينة وفي مقدمتها الحياة ذاتها.
ما كنت لأبدأ من هذا الروائي الذي اقتاد أبطاله أو اقتادوه إلى أعنف المغامرات، لولا أنه كان الأشد حرصا من أي روائي آخر على إتقان عمله، رغم غزارة إنتاجه، فهو كما يقول بدّل نهاية روايته «وداعا للسلاح» أكثر من ثلاثين مرة، لهذا فهو أحد هؤلاء المؤهلين للفصل الحاسم بين ثرثرة بنكهة روائية وبين رواية تتخطى التعريف الكلاسيكي لها كما قدّمه جورج لوكاتش، وهو كونها ملحمة البورجوازية الأوروبية.
وفي دراسة فيليب يونغ عن همينغواي نجد ناقدا حصيفا يتتبع المجرى الروائي من المنبع إلى المصب، ليجد أن همينغواي لم يفرغ حمولته كلها في روايته الأولى كما يفعل آخرون، منهم سكوت فيتز جيرالد الذي أشبع روايته «غاتسبي العظيم» بسيرة ذاتية. بالطبع لا يمكن لروائي جدير بهذه الصفة أن يكتب الآن كما لو أنه يعيش في زمن سرفانتس، فالموروث الروائي في العالم لا يحاول الفرار منه بتجاهله إلا من قرر أن يسبح على الرّمل، أو يصنع فاصولياء من الطين كما يقول هنري ميلر.
وفي عالمنا العربي حيث يحكم ثقافتنا نظام الموجات المتعاقبة، التي ما أن تلامس الشاطئ حتى تعود. صدق البعض أن المقولة التي تداولها النقد خلال العقود الثلاثة الماضية وهي أننا نعيش زمن الرواية بعد وداع الشعر، فقرروا أن يثرثروا إلى ما لا نهاية، وأن يورطوا شخوصهم في كمائن ليست من صنعهم، فالرواية أيضا يمكن أن توصف بالغنائية وليس الشعر وحده، خصوصا إذا تحول شخوصها إلى جوقة تردد أصداء المؤلّف. إن ثرثرة بنكهة روائية هي المرادف لكل ما طرأ على عصرنا من تلفيق يستبدل العضوي بالمصنوع والطبيعي بالشبيه. وكما أن نكهة الفاكهة يمكن تصنيعها بالكيمياء، وقد تكون أقرب إلى العسل المغشوش الذي يفرزه نحل معلوف بالسكر فإن الكتابة أيضا كذلك.
والوفرة في الإنتاج الروائي في عالمنا العربي الآن لا يحد منها نقد جاد، بل تتولاها دور نشر تجارية وصحافة تحتاج إلى ما يغطي البياض على صفحاتها على مدار الساعة. إن هناك من يكتبون وكأنهم آدم الأدب أو المخلوق الأول، ما دام الباب مفتوحا على مصراعيه لكل من اختلط عليه الأمر بين الغسق والشفق أو بين البحيرة والسراب. ولا أعرف أن أحدا ممن صدقوا أن مهنة الكتابة تحتاج فقط إلى أصابع ومساحات بيضاء على الشاشة أو الورق غير نهاية روايته ثلاث مرات فقط وليس أكثر من ثلاثين مرة كما فعل همنغواي.
في الماضي غير البعيد كان المبدعون يخرجون عن صمتهم إذا أدركوا أن بوصلة الإبداع تعرضت للاختطاف أو العطب، ولم يجدوا حرجا في إبداء آرائهم بمن طرأوا على مهنة الكتابة، وليس معنى ذلك أنهم أوصياء على الإبداع، بل هم النخبة المنوط بها حراسة هذه المهنة المقدسة عندما تعم الفوضى ويرتدي الأميون أقنعة مزخرفة، وعلى سبيل المثال كتب سارتر عن فرانسوا مورياك نقدا أوشك أن يخرجه من خانة الروائيين، وفي عالمنا العربي نكتفي بمثال واحد هو رأي طه حسين بروايات البير كامو، الذي أحدث صدمة لمن قرأوه، لكننا الآن ولأسباب عديدة نعيش حقبة من التواطؤ المتبادل، ونادرا ما يبدي مثقف رأيه الصريح بمثقف آخر، وكأن مقولة إكتب عني أكتب عنك أصبحت، إسكت عني أسكت عنك، ومن يراقب لقاءات المثقفين سواء في مهرجانات أو في المقاهي يجد أنهم يتحدثون في شجون أخرى غير الشجن الذي يشغلهم وأحيانا يصابون بضيق التنفس إذا وجد فيهم مثقف من نمط مغاير بحيث يصبح أشبه بجملة معترضة في كتابهم.
نعرف أن النعمة سواء كانت التكنولوجيا أو أي تطور علمي تنقلب لدى المتخلفين إلى نقمة، وأن ميداس الأمي يلامس الذهب فيحوله إلى تراب بعكس ميداس الأسطورة الإغريقي، لكن الذهاب بعيدا في تحويل النافع إلى ضار والنعمة إلى نقمة والفائض إلى نقصان أصبح الآن أقانيم جاهلية جديدة، لكن بلا معلقات وفرسان ورسل.
إن الثرثرة كما وصفتها ناتالي ساروت في إحدى قصصها تحول ما تدور حوله إلى صابونة سرعان ما تتلاشى في الرغوة، والرواية ليست تعبيرا عن فائض فراغ لدى البعض أو فائض نرجسية لآخرين وأخريات، كما أنها ليست «أرجيلة» في مقاهي الثقافة المعولمة الجديدة، حيث تضاف نكهات الفاكهة إلى الماء العكر والدخان.
إن ما نحن عليه الآن ثقافيا هو حصاد تواطؤ وهروب من الأبواب إلى المرايا.
شاعر أردني