ثقافة الاعتذار
إذا دعيت إلى مناسبة ما وأردت الاعتذار فإن الناس يستعملون أحد تعبيرين:
1- أعتذر عن تلبية دعوتكم.
2- أعتذر عن عدم تلبية دعوتكم.
والتعبيران فيهما شيء من الجفوة، إذ من اللطف أن تصف الدعوة بأنها كريمة مثلا، وأن تشير إلى سبب اعتذارك، كأن تقول: (… وذلك لموعد سابق) مثلا ثم تعبر عن أسفك ورجاء قبول اعتذارك. وقد شاع استعمال (والعذر عند كرام الناس مقبولُ).
التعبير الأول لا خلاف فيه بين الناس.
أما التعبير الثاني فقد ذهب بعض المعنيين باللغة إلى تخطئته، على أساس أن الاعتذار عن (عدم تلبية الدعوة) يعني تلبيتها. إذ إن (الاعتذار + العدم) يعني الإثبات.
فهل هذه التخطئة صحيحة أم لا؟ علما أننا لا نتحدث عن الخطأ والصواب بل عن مستويات التعبير اللغوي.
فلننظر في التعبيرين معا:
1- أمّا التعبير الأول فلا شك أنه يوجّه للداعين قبل بدء المناسبة. فلا خلاف في صوابه. ولا يصح أن يوجه بعد انتهاء المناسبة، فإن وجهته بعد انتهائها وكنت قد حضرتها فكأنك تشكو أنها قد حدث فيها ما آلمك وأزعجك وأنك من اللطف بحيث ذكرت الاعتذار ولم تقل: آسف لأني لبّيت دعوتكم. والمعنيان لهدف واحد.
2- أمّا التعبير الثاني فلا يصحّ توجيهه للداعين قبل بدء المناسبة. لأنه اعتذار عن شيء لم يقع.
في الحالة الأولى (أعتذر عن تلبية دعوتكم) ثمة دعوة تعتذر عن تلبيتها.
في الحالة الثانية: ثمة دعوة لكن وقتها لم يحن بعد كما أن التلبية لم تقع، فما مبرر الاعتذار؟
ولَمّا كان التعبير الأول لا يصح توجيهه بعد انتهاء الدعوة لأنْ سيكون فيه من الجفوة والخشونة الشيء الكثير، صار بإمكانك إرسال التعبير الثاني الذي سيحمل في تضاعيفه اعتذارا راقيا جدا. ذلك لأنك لم تستجب للدعوة الموجهة إليك فيأتي اعتذارك عن هذا الموقف، وكأنك كنت مجبرا عليه.
فالتعبيران صحيحان كلّ في موضعه: الأول قبل موعد الدعوة، والثاني بعد انقضائها.
وقد تسألني عن معنى الاعتذار وما يأتي بعده من حروف (اعتذر عن) أو (أعتذر من) أو (اعتذر إليك) أو (أعتذر لك).
أما (أعتذر عن..) فواضح المعنى، ثمة شيء فعلته وتعتذر عن فعله. وأما الاستعمالات الأخرى فمتقاربة المعنى. ولكنها تتفاوت في مستوى الدلالة اللغوية. فأرقاها وأرقّها (أعتذر إليك) وهو تعبير دالّ على تواضع جمّ، مثله مثل (أبتهل إليك). وأما (أعتذر لك) فهو أقل تواضعا، كما لو قلت (أقدم لك هدية). وأما (أعتذر منك) فتكاد تكون مساواة بين الطرفين لولا أن الاعتذار يتضمن شيئا من التواضع.
أما معنى (الاعتذار) فمن الجذر اللغوي (عذر) الدال على إصلاح خطأ قام به مخطئ أو خاطئ. والمُعْتَذِر: الذي يُقَدِّمُ عُذرا. فإنْ كان عُذْرُه صحيحا مقبولا، فهو: المُعْذِر، وإنْ كان عُذْرَهُ ادّعاءً باطلاً غير مقبول، فهو المُعَذِّر، أي: المُفْتَعِلُ للعُذر، ومنه قوله، تعالى: (وجاء المُعَذِّرُوْنَ مِنَ الأعْرابِ ليُؤْذَنَ لهم) (التّوبة 90) فهم يختلقون العُذْرَ اختلاقا لا صحّة له ولا حقيقة. ونقل الخليل عن العرب أنّهم يقولون للذين لهم عُذر: المُعْذِرون، بالتخفيف. وأما بالتثقيل: فهم المُعَذِّرون، أي الذين لا عُذرَ لهم.
ومنه (لقد أعذر مَن أنذر) أي قدم الإنذار فلا جناح عليه إن نفّذه.
والاعتذار صفة النفوس السامية التي تعترف أنها معرضة للخطأ وأن عليها الاعتذار. ولكن من صفات بعض الناس أن أحدهم لا يتصور أنه يخطئ، وحتى إذا عرف بخطئه استكبر عن أن يعتذر، كأنه يؤمن أن الاعتذار يقلل من قيمته التي يشعرها في ذاته، ويقلل من أهميته التي يخلعها على نفسه. وهو تقوقع في حب مَرَضيّ للذات.
فالاعتذار ثقافة لا يحسنها إلا من وثق بنفسه ولم يشعر بعقدة نقص أو غرور.
ولله عاقبة الأمور.
أكاديمي عراقي