جماليات التفكير النقدي في ‘علبة السرد’ لعبد الرحيم جيران
[caption align="aligncenter"]جماليات التفكير النقدي في ‘علبة السرد’ لعبد الرحيم جيران[/caption]تتسم المساهمة النقدية للدكتور عبد الرحيم جيران بالتفكير العميق في مدونة النقد والسرد على حد سواء. ارتباطا بوعي جمالي يؤكد حضور الذات العربية وقدرتها على طرح أسئلة تجاور وتحاور الرؤى النقدية الغربية، وتفتح باب النقاش على مصراعيه حول الهوية الأدبية والفكرية لهذه الذات. ولا شك أن كتاب ‘علبة السرد’ للناقد والمبدع عبد الرحيم جيران يشكل انعطافة هامة في مسار النقد العربي، بل يعد إضافة نوعية للسرديات المعاصرة. والمتتبع لأعمال هذا الناقد يعرف اختياراته النقدية، فهو يقيم مشروعه النقدي على ركيزتين رئيسيتين هما: ركيزة المشروع الشخصي، وركيزة محاورة الغرب. وفي مقدمة كتابه الأول ‘في النظرية السردية’ يعلن عن هاتين الركيزتين بوضوح تام. كما يبرز محاورته للمنتج النقدي الغربي في كتابه الثاني ‘إدانة الأدب’ والذي يساجل فيه الناقد الفرنسي تودوروف محاولا الكشف عن المغالطات النقدية في كتابه ‘الأدب في خطر’. كما أن كتابه الثالث يستكمل المسيرة نفسها؛ حيث يناقش فيه النظريات النصية الغربية، ويكشف عن الثغرات التي تتخللها محاور مفاصلها الكبرى انطلاقا من مشروعه النقدي الذي كشف عن تفاصيله الكبرى في كتابه الرابع ‘علبة السرد’. يعد كتاب ‘علبة السرد’ بحثا في النظرية السردية لا يقل أهمية عن الكتب النظرية الغربية في السرديات. وتتمثل أهميته في كونه يعرض على الفكر النقدي العربي، بل النقد العالمي مشروعا نظريا متكاملا ارتضى له تسمية ‘المقاربة التجديلية التضافرية’. وقد ذيل الناقد العنوان الأساسي لهذا الكتاب بعنوان فرعي ‘النظرية السردية من التقليد إلى التأسيس. ومن دون ريب أراد بذلك توجيه دعوة صريحة للنقد العربي يدعو من خلالها إلى تجاوز مرحلة تقليد الفكر السردي الغربي وتمثله إلى مرحلة التأسيس أو الإنتاج الذي يحمل في أعطافه ضرورة التوجه إلى بناء السؤال الخاص، والابتعاد عن تكرار ما ينتجه الغير، والتخلي عن الاستهلاك أو ما يسميه بالتتلمذ الاستهلاكي نسبة إلى خيري بك (مقدمة ‘في النظرية السردية’. نلمس من خلال المقدمة التي وضعها الناقد للكتاب أنه يطرح أسئلة ثلاثة رئيسية تعد هي أساس بناء مشروع النقدي الخاص والمتميز. وهذه الأسئلة هي كالآتي: كيف ينشأ الملفوط السردي؟ وكيف تتعالق المستويات في النص الأدبي؟ وإلى أي حد لا تمكن معالجة مسألة الجنس الأدبي على مستوى الدلالة، وليس فقط على المستوى الشكلي. قاد السؤال الأول الناقد إلى التفكير في المكونات والمحددات التي تجعل ملفوظا لسانيا طبيعيا يتحول إلى نواة سردية تتوسع لتصير نصا سرديا. واستند في ذلك إلى العلاقة بين إرادة ذات واستعمال موضوع ما. وفي خضم ذلك كان يعمل على مساءلة الفكر السردي الذي تناول الملفوظ السردي من دون أن يهتم بتكونه، وتحوله من اللغة الطبيعية إلى لغة تعتمد التخييل. وناقش اثنين من أهم المفكرين في السرد. الأول غريماس، والثاني بول ريكور. وأقام محاورته للأول على نقده في ما يخص نظرته للعلاقة المباشرة للذات بموضوعها، فأدخل اصطلاح التوسط الرمزي ليشير إلى أن تلك العلاقة غير مباشرة بل موسطة بالسنن والقواعد التي تتدخل في علاقة الفرد بالأشياء والموضوعات، وأقام نقده للثاني على مستوى الهوية السردية، والتي ظلت عند حدود الفعل، والحبكة، ولم تأخذ بعين الاعتبار مسألة اختلاف ناجم عن تمزيق التوسط الرمزي بوصفه توسطا، والذي لم يعد وساطة قائمة على النصوص التي تتوسط السرد في نص ما. وقاد السؤال الثاني الناقد إلى التفكير في الآليات التي بموجبها تتعالق المستويات، وعمل في هذا الإطار على نقد مفهوم الملاءمة المنهجية التي كان يتخذها أغلب النقاد الغربيون في تبرير عدم انشغالهم بسؤال التعالق هذا. وهو محق في هذا الأمر، فإذا كان النص يعد كلا في النظرية النصية الغربية، فلماذا يجزء في دراسته، حيث تفصل الدلالة عن الجانب الجمالي. وقد فكر الناقد عبد الرحيم جيران على اقتراح خمسة مبادئ رأى بأنها هي التي تسمح للمحلل بفهم كيف تتعالق المستويات النصية، ويؤثر بعضها في البعض. وهذه المبادئ تشتغل على شكل ثنائيات، وهي كالآتي: (الضرورة/ الحرية)، و(التقدم / التقهقر)، و(الوحدة / الكثرة)، و(الانتظام / الاضطراب)، و(الانفتاح/ الانغلاق). وربما كان مفهوم التجديل نابعا من هذه المبادئ، ويمكن عده بمثابة رؤية لكل طرف من هذا الثنائيات من خلال الطرف الآخر، والعكس وارد. وهنا يبتعد الناقد عن مفهوم الجدل كما مارسه هيغل، فهو لم يغلقه من خلال افتراض لتركيب ما، بل جعله مفتوحا وهنا يقترب بكل وضوح من الجدل كما فهمه نيتشه من دون التقيد بنتائجه نظريا. وهذه المبادئ الخمسة تنظم عملية تنامي النص السردي، ومروره من الدلالة بوصفها مستوى أولا إلى التعبير بوصفه مستوى ثان. ونلمس من خلال هذا التنامي مراعاة شرط نظري يحدده الناقد في التجديل بين البنية والفاعل. هذا التجديل يجعل النص متناميا من العام والكلي نحو المتغير غير الثابت. وهو بذلك يسهم في حل مشكلة الانتقال من المستوى الدلالي نحو المستوى الجمالي، أو من المتماهي إلى الفرداني الذي تبرزه كل كتابة خاصة. وقاد السؤال الثالث الناقد إلى إمكانية معالجة الطريقة التي يتكون بها الطابع الإجناسي للنصوص السردية على مستوى الدلالة، وقد أدى ذلك إلى مخالفة العادة التي سادت في معالجة هذه المسألة؛ حيث يذهب النقاد مباشرة إلى المستوى الشكلي؛ أي الجمالي المرتبط بالخصائص الفنية. وفي هذا الجانب نحت الناقد مجموعة من المقولات الصنافية ليشير بها إلى ملفوظات مؤسسة وحدود فصلية ومحددات تحدد طبيعة الذات ونوعها، ثم كيف يؤدي اشتغال هذه المقولات إلى المرور مباشرة إلى التعبير باعتباره تغطية لسانية. فهي إذن ‘ما تصنف الدلالة به نفسها داخل حقل نوعي معين’. وربما كان ما وراء هذه المقولات الصنافية اهتمام بالبعد القيمي المنتج للفعل في السرد؛ أي ‘موضعة الملفوظ السردي في إطار ما هو اخلاقي، أو قيمي، أو اختيار فكري’. ويشير الناقد إلى أن هذه المقولات المؤسسة ناجمة عن التجديل بين القصد والجهد. وهذه المقولات خمس، ويرى الناقد أنها مجرد اقتراح أولي، إذ يمكن توسيعها. وهي: التحديد (الاختيارات في استهداف الموضوع سواء أكان من طبيعة الامتلاك أو الكينونة)، التوجه (الطاقة الإرشادية التي توجه الاختيارات)، التثمين (ما يصاحب الجهد من تقويم أو فحص أو إعادة نظر)، التقدير (درجة إقبال الذات على الموضوع من خلال تقدير درجة التصور الذي تحوزه حول تحققه)، التعرف (نوع الإضافة إلى العالم أو الحافاظ عليه). ويفرض علينا تقديم هذه المقولات الإشارة إلى أنها لا تنفصل عن الخط العام الذي يتحكم في التجديل التضافري، ألا وهو التحكم في أمرين هما: كيف تتنامى الدلالة من طبيعتها العامة في اتجاه التعبير، وكيف تتعالق المستويات. وهكذا تنقلنا المقولات الصنافية من تكون الملفوظ السردي على مستوى الدلالة إلى مستوى أعلى تصير فيه بمثابة جسر يؤدي إلى نشوء الاحتيارات الخاصة بالنوع، وهذه الاختيارات تمهد في النهاية إلى الانتقال إلى التعبير، أو ما يسميه الناقد بالمستوى الطبولوجي، أو التغطية اللسانية. يتكون المستوى الطبولوجي الذي يدل على التعبير أو بصفة عامة على الكتابة من مستويات ثلاثة فرعية تتحدد في الحامل والموقع والتوزيع. وهذه المستويات تتكفل بإظهار الطرائق التي يتكون بها النص السردي باعتباره عملا يعود على فرد معين. والمقصود بذلك المرور من الوحدة التي طبعت الدلالة إلى الكثرة؛ أي إلى المستوى التعبيري الذي يتميز بتفرد الكاتب. ويتميز اشتغال هذا المستوى بإعادة النظر في كثير من المفاهيم التي كانت شبه يقينية في السرديات. وأشير بذلك إلى مفهومين رئيسيين هما: الشخصية (و/ أو العامل)، والرؤية السردية (و/ أو المنظر السردي. ويبين الناقد عدم كفاية هذين المفهومبن نظريا وإجرائيا، ويستبدلهما بمفهومي الحامل والموقع. كما تنبغي الإشارة هنا إلى أن كتاب ‘علبة السرد’ يؤسس- في إطار مراجعته مفهوم الموقع- أرضية لقراءة السرد العالمي، وليس العربي- على مستوى تاريخه. ونلاحظ ذلك أولا في المقارنة بين ‘الحكي العريق’ و’الحكي الحديث’، وثانيا في تتبع التحولات التي عرفها مفهوم الموقع، وذلك عن طريق استقراء مسار الحكي عبر التاريخ. إذ نقدم هنا هذا الكتاب الفريد في تاريخ النقد العربي الحديث، لا يسعنا إلا أن نؤكد على كونه يعد تحولا هاما في المقاربة السردية، وفرادة هذا الكتاب تأتي من زاويتين: أولا اجتراح مقاربة منهجية جديدة مبنية على نحو منطقي ومنهجي جد صارم، وهذه المقاربة لا تختلف من حيث الدرجة والأهمية عن مشاريع غربية ظهرت قبله. وثانيا القطع مع اتباع الغرب، والوقوف عن تمثله وتطبيق ما يجود به من تصورات نظرية؛ فكتاب ‘علبة السرد لا يقف عند حدود اجتراح مجهود خاص، بل يتعداه إلى مساجلة التراث السردي الغربي، وهذا هو ما يمنحه خصوصيته اللافتة للنظر. ‘ كاتب مغربي
]]>