جوالٌ مُستطير
في أعلى ظهره كانت تبدو قفاه الطويلة فقط، أفقية كجسرٍ غيرِ مكتملٍ ممدود في الفراغ. لم يرفع رأسَه في ميلود، النادلِ الذي وضع بين يديه وجبةَ إفطار مكتملةَ الأوصاف. رقاقٌ وعسل وزُبدة وبيض ومثلث جُبنة؛ برَّادُ شاي عبِقٍ على قمقمه غُصَين نعنع وبجانبه كوبٌ فارغ؛ كأسُ برتقال وكوبُ ماء حلية وزينة. انصرف النادل. حينها فقط رفع رأسه، وبدون التفات وضع جانبا على محفظته هاتفا من النوع الباهظ، كان قد عكف عليه منذ وصوله وجلوسه. توقف أمامه متسولٌ سأله بعضا من طيبات فطوره. لا يجدي التسول إن لم يكن توقيته مدروسا وكميةُ الإحراج وافية. صرَفَه بكلمات يبدو أنها دعاءٌ بالتيسير. انصرف المتسول وهو يخالسه النظر. مشى حتى جلس إلى متسول آخر في ركنٍ غيرِ بعيد.
استوى في جلسته وتناول البرَّاد، أزاح الغُصين وصبَّ السائل الحار في الكوب وأعاده إلى البراد ثم من البراد إلى الكوب، ثم من الكوب إلى البراد. جيئة وإيابا، طردا وعكسا داخل الحوجلة المعدنية حتى يستوي ميزانُ احمرار السائل. كأنه خيميائي يصنع إكسيرَ الحياة. الشاي إكسيرُ الحياة في هذه الأرض، والخبزُ حجرُ الفلاسفة والسكرُ ملحٌ حلو. ثم وضع البراد. تلمس الكوبَ الفارغ فوجده ساخنا جدا بفعل التقليب والمَلْأ والصَّب. يجب تغييره. نظر في داخل المقهى ونادى: «ميلود!»
هب إليه ميلود بكوب جديد بارد. ميلود عجيب. إما أنه ذو حدسٍ رهيب أو أنَّه ذو بصر حديد ورادار خدمةٍ بعد البيع. ناولَه الكوبَ البارد بخفة ورفع الآخرَ الساخن. عاد هو الآن يصب الشاي الذي صار في تقديره جاهزا للاحتساء. ملأ من الكوب الجديد ثلثيه، ومد أصابعه للرقاق، لكنها ما لبثت أن توقفت في الطريق. كأن لها عيونا قد أبصرت حاجزا شفيفا لم تدركه عيونُ الرأس. حضرَه شيء.. فكَّرَ قليلا، ثم قدَّرَ ثم قرَّرْ.
تلمس جيبه يبحث عن المحمول. لم يجده. اهتز في مكانه كأنه قد فقدَه. على قدر نفاسة الجهاز يكون الاهتزاز. كأنه لم يضعه بيده جانبا فوق المحفظة. تُرى هل سُرِق منه في طرفة عين؟ هل كان المتسول نشالا مُقنَّعا؟ مدَّ بصره فرآه هناك على مسافة مع جليسه يقتعدان الرصيف. كيف لم يبرح مكان جريمته؟ ثم استدار ليرى هاتفَه الغالي مستقرا فوق المحفظة لم يبرح مكانَه. الذاكرة مخرومة والغلاء يجذب الغليان. فتحه. تلمس الشاشة بسبابته طولا وعرضا، يمينا وشمالا يبحثُ عن اسمٍ ورقمٍ سيناديه الآن. بدون تأجيل. قبل الإفطار وليس بعد الإفطار. الآن أمرُ.. وبعدَه فِطرُ!
إمَّا أن الأمرَ مستعجَل أو أنه هو المُستعجِل. وبدأت المكالمةُ سلاما هادئا ثم تدرجت أخذا وردّا ومُراجعة ونقاشا مستفيضا وتفاصيل وتحاليل، ثم صارت صبّا لكلام ساخن وإعادة، كصبِّ الشاي ومراجعتِه قبل قليل، ثم صارت حربا كلامية استنزفته. غضِب واحمرت أذناه، كأنما كان يتكلم بجهازين لصيقين بهما. فجأة أبعد المحمول عن رأسه بعصبية. نظر في الشاشة التي أضاءت فورا، ضغط على خاصية إخراس المكالمة حتى لا يسمعَه مخاطبُه بعدها، رغم بقاء الخط منفتحا. كأن الشبكة قد فُقدت. كأنه خرج من التغطية. تربص قليلا، ثم ضغط على نهاية المكالمة بعنفوان وبدونَ عبارات توديع. التفت بوجه مشمئزا وهو يضع الهاتف بخشونة على المائدة الصغيرة المستديرة. كادت المائدة تفقدُ توازنها، وكادَت الأكواب على طولها تقع وتجودُ بما فيها على البلاط وعليه، عساهُ يبرُد ويسكن لكن.. وجبة الفطور هي التي تبدو قد برَدَتْ..
سكنَ قليلا وسكت عنه الغضب. أخذ ينظر إلى المارة من هناك بدون إبصار. أشعل سيجارة أولى.. ثم ثانية.. ثم ثالثة.. كأنْ ليسَ أمامَه شيءٌ يفتح الشهية..
من بعيد، التفت المتسولُ لجليسه قائلا: «بنادمْ!! مَا فْطرْ ما عْطانَا نفطرُو!»
٭ قاص مغربي
جوالٌ مُستطير
رضا نازه