حدائق التأويل السرية
[caption align="aligncenter"]حدائق التأويل السرية[/caption]لا جدال في أن البعد الوظيفي، هو أحد أهم العوامل المؤثرة في تشكيل عناصر الكون، وفي هندسة ما يتأسس بينها وبينه من علاقات، غير أن هذه الوظيفة ذاتها، وحالما توضع في غير ما ينبغي أن توضع له، فإنها حتما ستؤدي إلى اختلاق علاقات غير طبيعية، وغير منطقية، سواء بين عناصر النسق الواحد، أو بين ما يغايرها ويغايره من أنساق. ولعل أكثر الجوانب سلبية في هذا الباب، هو ذلك المتمثل في رفض الرؤية الوظيفية لمبدأ التعامل مع الظاهر باعتباره بنية قائمة بذاتها، وهو ما يضفي ظلا قدحيا على الأشكال الفارغة/المحايدة، والموحية بخلوها من أي امتلاء وظيفي، بما يفيد خلوها الفعلي من الحياة. إنها تبدو هنا فارغة تماما من المضمون ومن الوظيفة ومن أي دلالة محتملة يمكن أن توحي بحضورها، وقد بدت فارغة تماما من أي ثقل دلالي. وهو ما يدعونا إلى الإشارة إلى ذلك الامتلاء البديل والمضاد، الذي لا ينهض على أساس حضور مضمون، يكون دليلنا إلى حقيقة ما، بقدر ما يتحقق عبر استقلالية شكل/ظاهر، يتمتع بوجوده الذاتي نوعا وكيفا، حيث الفراغ الذي يعتبر من وجهة نظر أتباع المضمون خواءً تاما، يبدو من وجهة نظر تأويليةٍ ذات منهجية مغايرةٍ، ممارسا لنفي جماليٍّ على لعبة الوظيفة، التي تتعامل مع الشكل باعتباره خادما وضيعا لسلطة المضمون. إنه الفراغ الذي ينتشي الشكل به، وقد أصبح مكتملا ومتكاملا، ومستوفيا لشروط الحضور الكبير. وهو التوجه المؤدي إلى هدم المنظومات والمقولات التقليدية جملة وتفصيلا، كما يؤدي إلى تفكيكها بالكامل، لأن كل خطاب فلسفي، أو إبداعي يهدر طاقاته، ولأزمنة طويلة في استخلاص المقولات الكبرى والصغرى، من ثنائية الظاهر والباطن/الشكل والمضمون، يفقد في هذا السياق صلاحيته ومشروعيته، حيث يستدعي الأمر اقتراح خطاب مغاير، يعيد النظر في طبيعة العلاقة القائمة بين هذه الثنائيات، خارج إطاراتها الوظيفية الساذجة والوثوقية في آن، لأن الشكل ليس دائما مجبرا على التمحور حول مضمون ما، تبعا لقابليته لأن يكون شكلا لمضمونه الذاتي، أي لشكله هو، حيث يحتمل أن يعود مضمونه لشكل آخر، غير الشكل الذي يُعتقد أنه مخلوع عليه. بمعنى أن المضمون الذي يُعتقد في احتجابه وراء هذا الشكل، قد يكون مضمونا لشكل آخر. وهي المهمة المسنَدَةُ أساسا لفعل التأويل المتمثل في استدراج النص إلى أفق قراءات مغايرة، ضمن إعادة بنائه وصياغته دلاليا، على ضوء انتظاراته الجديدة، علما بأن هذا الأفق المطلوب، قد يكون مضادا لما هو معلن عنه في النص، سواء من جهة الظاهر أو من جهة الباطن، بمعنى أن استراتيجية التأويل المعتمدة في هذا السياق، تتجسد في السير بالنص وجهة مضادة لمساره الطبيعي، وهو ما يحشره في زاوية «النوايا المبيتة» و»المغرضة»، بسبب انحرافه المكشوف عن منطق/واجب الإنصات الموضوعي والعقلاني، إلى احتمالات النص الداخلية والخارجية. من هنا يمكن القول إن التأويل في هذا السياق، يتخذ منحى خطيرا، بالنظر لتجرده من روحه الثقافية والحضارية، بفعل تحوله إلى أداة ناجعة لإثارة الفتن، وتأجيج نيرانها، خاصة حينما يتعلق الأمر بتأويل النصوص ذات المنحى العقدي، أو بتأويل ما لهُ صلةٌ بالمواثيق الدولية المرتبطة بتعاقداتها الأمنية، الاقتصادية والسياسية. إلا أن التأويل ذاته يصبح فعالا، حينما يتوجه إلى النصوص الفكرية والإبداعية، التي يستدعي منطق اشتغالها، تجاوز الدلالات الجاهزة والثابتة، إلى الدلالة المتحولة التي يترك التباسها الباب مفتوحا على مختلف أنواع القراءات، كما يجد مجاله في الكتابات غير المشفرة، خاصة منها تلك التي تعرضت بعض ملامحها إلى التحوير، بتأثير من عامل الزمن، أو العبث الموجه. وبصرف النظر عن خصوصية المجالات التي تتحكم في حركية التأويل، فإن إشكالية علاقته بالعقل تظل محتفظة بملحاحيتها، ذلك أن العقل في هذا الإطار تحديدا، ينفلت من حدود عقلانيته باعتماده آلية تأويل مغايرة لطبيعته، التي لا تتقبل أي ممارسة غير متوازنة ومشوبة باختلالاتها، وهذا الانفلات، يلاحظ في اعتماد التأويل كسبيل ماكر، وغير سوي لتحريف الدلالات النصية، وانطاقها بغير كلامها، وبغير لغاتها. التأويل هنا يتحول إلى قناع يحجب الملامح المشبوهة للعقل، كما يكون القناع ذاته الذي يحجب عجز العقل عن النفاذ إلى عمق الدلالات النصية، بمعنى أن التأويل هنا، لا يهدف إلى إرغام النص كي يتحدث بغير لغته، بقدر ما يكون نوعا من التستر على عجز القراءة عن النفاذ إلى النقاط المعتمة في باطنه، حيث يلجأ التأويل إلى استحداث باطن مغاير ينسجم مع انتظاراته، من أجل الإيهام بتفرده في استخلاص ما تم استخلاصه. في موازاة العقل المؤول، ثمة الذات المؤولة، والمتميزة عادة بتعدد حدائقها السرية، وتعدد الفضاءات اللامرئية التابعة لها، إلى جانب تعدد أرواحها الموازية لتعدد مدارجها، وتباين مستويات تأقلمها، وتملكها لسلطة الرؤية، وهو ما يؤثر في هيكلة جهازها التأويلي، الذي يسمح للذات بممارسة انتقالات لا متوقعة، في فضاءات دلالية متباينة. هذا الجهاز هو المتخصص في فتح حوارات مع اللامتوقع، ومع اللامنتظر، مع المنسي واللامفكر فيه، والذي يمكن أن يوظف إما بشكل متخلف، أو متقدم تبعا لتباين مستويات كفاءاته المعرفية وطاقاته التأويلية. إن الأمر يتعلق بانتقاء منهجي للمسار، للوجهة، وبالتالي للإيقاعات النظرية التي تندمج فيها الخُطى التأويلية، حيث ما من تكاملٍ، إلا وهو مشروع بدايةِ مطافٍ لمسارِ تكاملٍ آخر، يتخذ السير بموجبه شكل جُماع الخطى المفضية تباعا إلى هناك. إن الخطوة التأويلية هي وحدة أساسية لمنطق التعاقب والتتالي. هي وحدة من أبجديات السؤال ومن أبجديات البحث، ومن أبجديات الحركة باتجاه الأفق، الذي يتواصل وبِتفاعلٍ ملموس مع إيقاع الخطوة. فلا وزن لاستجابة الأفق، من دون حضور استجابة الخطوة، التي هي الموجِّهُ، المحرك، البذرة والنواة. كما لا قيمة للخطوة، من دون أفق مهما كان ملتبسا، ومهما كان معْتِما، وغامضا، باعتباره مصدر الكينونة والخزَّان الذي تستمد منها الحياة طاقتها وميكانيزماتها، وفي حالة غيابه يحضر الحصار، أي ما هو تجلٍّ سافر للعدم. إن حركية الكائن، موجهة دائما بهاجس إسقاط الحجب عن الأفق المعني بالاستشراف، وبالعمل على تحيينه وترْئِيتِهِ. كما أن الأفق غالبا ما يكون نموذجيا، أي متمثلا من حيث هويته ومقصديته، بمعنى مستجيبا لمسار ما، لرؤيةٍ ولإمكانياتٍ معرفيةٍ مادية ورمزيةٍ. وكما توجد ثمة آفاق دانيةٌ صغيرةٌ مرتبطة باليومي، ثمة أيضا الأفاق المصيرية المقترنة بأسئلة الاختيارات. هذه الأفاق غالبا ما تكون ذات طبيعة افتراضية، مثالية ومؤثثة بالأوهام وبجاذبيتها الاستقطابية. وفي قلب هذه الإشكاليات الكبرى، ثمة التأويل الذي يخطئ الطريق إلى أفقه، في سياق اجتراحه بأدوات لا علاقة لها بخصوصية الأفق المطلوب. أو بالأحرى التأويل الذي يشق طريقه نحو أفق غامض، لا علم له بألوانه وأصواته، ربما فقط على سبيل الفضول، والرغبة في تحقيق تماهٍ قد يكون آيلا إلى خرابه، باعتبار أن صياغة صورة ممكنة لأفق محتمل، يظل بحاجة ماسة إلى قناعات نظرية، وإلى خبرة عميقة في تدبير هذه القناعات، وأكثر من ذلك، يحتاج إلى الوسواس المؤرق الذي يحفز ويضيء. لكن يجب الانتباه إلى حضور مختلقي الآفاق، التي لن تكون بالضرورة سوى آفاق تمويهية، قريبة الصلة بحراس المراكز والأوصياء عليها، وهي المراكز التي تمارس غوايتها وسحرها على ذوي العقول الصغيرة، فتستهلك أجسادها وأرواحها، إنها مراكز الأفاق المتسلطة التي تقوم بمهمة الاحتواء ومهمة الاستقطاب وتعميمُ العمى. إنها الأفاق ذات الطبيعة الاستعراضية، التي يلتئم فيها شمل الوحوش، وشمل اللصوص وشمل عيون القبيلة. في حالات جد استثنائية، تنسجم نداءات الكتابة مع نداءات أفاقها، حيث يكون ثمة نوع من التفاعل الرمزي المستمد من حضور ظلال تماهيات وتطابقات محتملة، وهو ما يشحن المسارات نسبيا بانتشاءاتها، علما بأن الذات الكاتبة هي التي تقوم بتأثيث فضاءات هذا الأفق، عبر إخراجه من عمومياته، وإعادة توصيفه وتنظيمه، انسجاما مع خصوصية ما تطرحه من أسئلة، وما تقترحه من مدارات دلالية وتأويلية، دون أن تتردد في قبول ذلك التيه الباذخ، الذي يتهددها، وهي تعيش قدر انشطاراتها، في تضاعيف التعدد اللامتناهي لنداءاتِ ما يتجاوز أحيانا حدود الأفق المفرد. شاعر وأكاديمي من المغرب
]]>