حبْلُ غسيلِ النَّشْر في يوم الكِتاب العالمي
[caption align="aligncenter"]حبْلُ غسيلِ النَّشْر في يوم الكِتاب العالمي[/caption]قبل أسابيع سألني أحد الأصدقاء، عقب فوزي بجائزة النقد الثالثة ضمن جوائز الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي: ‘أتشتغلين بالأدب أم هو على هامش حياتك؟’، فأجبته قائلةً: ‘الأدب اشتغال لدى الأمم التي يمكن للأدب فيها أن يطعم خبزاً. نحن نمرُّ على الحواشي ونترك لهم المتون.’ أجبته حينها بحسرة. وأعيد اليوم كتابة تلك الأحرف بمرارة وإحباط. وأنا أراهُم يتحدثون عنكَ عزيزي الكِتاَب. ويحتفون بيومكَ العالمي، بل ويُلحِقون بيومكَ الاحتفاءَ بحقوق المؤلِّف. كنت أعتقد صادقةً أنّه يكفي أن تعيشي عزلتك بتروٍّ كي تواصلي مسارك الإبداعي بمزيد من العطاء والتميُّز والإبداع. وكنت أوطِّنُ نفسي على الاستمرار. وأدَّعي أنّني لست متأثِّرة بكوني لم أنشر بعدُ أيّاً من أعمالي الإبداعية الثلاثة الأولى، وكلُّها بِضْعَةٌ مني أحفظها مصونةً عن الإهانة التي يقذفها في وجهكِ سوق نشر يتحكَّمُ فيه، في الغالب، مُمَوِّلون لتداول ثقافي بئيس يمارس التجارة بادِّعاء الفكر والإبداع، لا يرتاد المغامرة ولا يقبل التجديد. ولكي لا أرمي نفسي بالعجز والإدانة، لم أدَّخر وسعي في تعميم أعمالي على دور للنشر وطنية وعربية. كان يكتفي أحياناً بعض الناشرين، بمجرد توصُّلهم بالعمل، بإرسال بيان التكلفة المَبْدئية، في انتظار موافقتي على العرض وأداء الثمن المحدَّد، للبدء بالإخراج ثم الطباعة والتصفيف. ويأتي في الأخير الشحن وكلفته. فالناشر، واعذُرْه عزيزي الكِتاب، هو صاحبُ مطبعة يبيع خدماته في تصنيع المنْتوج، وعليَّ بوصفي المُستفيدة من التصنيع، أن أتحمَّل كُلفة الشحن داخل المغرب أو خارجه، وأن أخزِّن بضاعتي ثمّ أعرضها للبيع والتوزيع بمعرفتي لاحقاً. وكان بعضهم يعلِّقُ العملَ تحت أنظار لجان القراءة لأشهر طويلة. ثمَّ بعدها يرسل رفضاً مدعوماً ببعض مقاطع من تقرير لجنة القراءة. وتكشف تلك المقاطع للأسف الشديد برداءة جليَّة أن العمل لم يُقرَأ. وإن أحسنتُ باللجنة الظنَّ، فقد تمَّ تصفُّح العمل سريعاً في برهة واحدة، للخروج إلى أنّه لا يوافق خط النشر. أحتفظ بكل تلك المراسلات عزيزي الكِتاب، وهي مراسلات تُدين دوراً كبيرة للنشر متحكِّمة في صكوك التّزكية والتَّرميز. وكان الصنف الثالث يطالبكِ والنص بين يديه، بإرسال ملخّص يقدِّم للعمل فيما لا يتجاوز 250 كلمة، مرفوقاً ببيان السيرة. وبعد أشهر أخرى من الانتظار يخبرونَكِ بأنّ مخطّط الدار للنشر هذه السنة قد استوفى عناوينه، ولن تحظي بفرصتكِ مع تلك الدار الكبرى إلا بعد سنتين. لا تستغربْ عزيزي الكِتاب، إنها سياسة الدور الكبرى؛ تراهن على أنّ الانتظار جزء من البث في الرفض، أو وسيلة لتأكيد مصداقيته. والعلم سابق بأن اعتماد بيان السيرة، هو ربطٌ مسبَق لقرار نشر العمل الحالي بتزكيات الناشرين الذين سبق لهم نشر أعمالكِ السابقة.. وتمتد الحلقة، مرَّةً بعد مرَّة.. وجاءت الجائزة اعترافاً وتكريماً لا يتحقق إلا خارج الوطن.. ففي الداخل أبواب النشر مغلقة، ومقاعد الاحتفاء محجوزة لأسماء أخرى لها حجمها ووزنها وتاريخها، أو لها عُصبها وجماعاتها وسدنتُها. جاءت الجائزة عن أول عمل أقترحه لنيل جائزة. وكانت المشيئة أن يكون دراسةً نقدية، تقترح منظورَها المجدِّد في قراءة الرواية المغربية الحديثة. وتنصِتُ في ضوء ذلك المقتَرَب النقدي إلى صوتِ النص الروائي المغربي، ومحاورتِه التي يعقدها مع الجنس الروائي عموماً. واعتقدتُ واهمةً أنّ الناشر المغربي سيُظهر اهتماماً ما، يوازي التكريم الذي حقَّقه العمل دون وساطة سادِن أو تزكية ناشر، ويليق بفوزِ العمل النقدي بالجائزة، ويحتفي بكون العمل الفائز يقارب متوناً مغربية. لكن لم تجد الدراسةُ إلى غاية اليوم، دارَ نشر وطنية تحتفي بمُنْجَزها النقدي، في ظل دولة تشجِّع وتحثُّ وتدْعَم مادياً ورمزياً ومعنوياً ودولياً، المهرجاناتِ بكل أنواعها والمواسمَ بكل ترفيعاتها ( في مقابل تخفيضاتٍ أو تنزيلاتٍ أخرى) والمناسباتِ بكل طقوسها. لكنها لا تأبه للأدب والعلم والمعرفة والفكر. ولا تعير ضجيجَ كلِّ ذلك انتباهاً يزعج انسيابَ أيامها واستتباب أمنها. ولا تكلِّف نفسها عناء وضع استراتيجيات للقراءة، قد تفضي إلى إنضاج قارئ يمكنه أنْ يسائلَها لاحقاً ويحاكمَها. فلمَ نكتُب؟ ولمن نكتب؟ ولمَ نجشِّم أنفسنا أهوالَ الدفاع عن قيم، يبدو أنّها ليست للتداول، ولا تحظى بالحد الأدنى من التحفيز؟ أخبِرْني أيها الكِتاب العزيز. وأواجه من جديد، شرط شراء خدمات الناشر صاحب المطبعة، الذي لا يبدي أدنى احترام للقيمة الأدبية أو الفكرية أو الإبداعية أو العلمية، للدراسة الفائزة أو للناقدة المُحتفى بها. علماً بأنّ مقالاً نقدياً بسيطاً فيما لا يتعدى بضع صفحات، منشوراً بجريدة أو مجلة خليجية يقابَلُ باحتفاء معرفي وبتعويض مادي وبتقدير رمزي. كانت وصفتي الخالية من كل توجيه أو وصاية سبيلي لمواصلة الكتابة والإبداع، مكتفيةً بالنشر الإلكتروني الذي ليس بديلاً عن النشر الورقي، بل إنّه ندٌّ ينافسه، حين تتحقَّق للمادة المنشورة الجودة اللغوية والنَّفس الإبداعي والألق التجديدي، لأنّ الفضاء الإلكتروني فضاء مفتوحٌ يقبل بالفعل الغث إلى جوار السمين. لكنه فضاء ينطلق في أفق للقراءة غير محدود، من حيث اختراق الحدود المكانية والزمانية في فضاء كوني لا يفتقد إلى دور الموزِّع في النشر الورقي، ومن حيث كثافة المتابعة والمواكبة وإمكانية التواصل الفعلي بين القارئ والكاتب دون إلزامات جلسات التقديم والقراءة والتوقيع، أو إكراهات التسويق لبضاعة ورقية لا قارئ يطلبها. ألا يعجُّ واقع النشر الورقي بالرداءة ألا ينشر الهزالة والتفاهة الدَّاعرة أدبياً؟ ألا يصفّْقُ لكل التَّعْريات بشتى أزيائها وأحزمتها وأغطيتها؟ ألا يثبِّتُ قيمَ ولست أقصد هنا، عزيزي الكِتاب، أدب الهامش الذي له الطابع الشعبي لأنه ليس الأدب المعتمَد الراسخ بفعل إقرار المنظومة أو المؤسَّسة لحضوره أو وجوده أو أولويته، فيما تتناوله الدراساتُ الثقافية ضمن فروعها ومباحثها المختلفة. فقد استنفدتْ ساعاتُ التواصل عبر منتديات التواصل الاجتماعي مساحات الوقت الثالث، واكتسحت حيِّز النوم وصاحبت ساعات العمل، فلم يعد في وطننا العربي متّسعٌ لحملكَ، وأزمة القراءة ضاربةٌ بجذورها المدمِّرة في عمق أجيالٍ، لم تصاحِبكَ، أميَّةً أو ترفاً أو جهلاً أو استغناءً… في ظل كل ذلك، ما زلنا نحتفي بكَ عزيزي الكِتاب. ونحتفي في حضوركَ بحقوق المؤلِّف. وأقفُ على مفترق الطّرق بين عزلة أحتاجُها لإنتاجِكَ، وعزلةٍ يقتضيها أنّني أنْجزتُك في ظنِّي، وعزلةٍ أنا مجبَرَةٌ عليها لشجبِ أرصدة بُخلٍ يتاجرون فيها باسمك. ولي فيك، على الرغم من الألم، أملٌ بعد العمل.. *كاتبة وناقدة مغربية saidataqi@gmail.com
]]>