حياة فاتنة من صنيع الكلمات

حياة فاتنة من صنيع الكلمات

حياة فاتنة من صنيع الكلمات

ألبرتو منغويل ما زال مثابرا على القراءة. أكثر الكتب التي أصدرها تحمل كلمة القراءة في عنوانها، بدءا ب»تاريخ القراءة» كتابه الأساسي. وهو وإن استبعد تلك الكلمة من عناوين كتب أخرى، إلا أنه يظل منها على مقربة. مثال ذلك «مدينة الكلمات»، وهو عنوان كتاب له ينضم إلى تلك السلسلة التي تحتفل بالقراءة وعالمها. أما تفاصيل هذا العالم فتشتمل على الكتاب، ورقا وغلافا وإخراجا، وكذلك على قصص تتعلّق به وبتاريخه، وتشمل كذلك المكتبة والمنزل الذي تقع فيه المكتبة، وأوقاتها، وله في ذلك «المكتبة في الليل»، والاستراحات القصيرة التي تعقب الدهشة بجملة باهرة ارتفعت مضيئة على سطح النصّ. ولنضف إلى ذلك امتداحه القارئين، وأولهم خورخي بورخيس الذي لا يكاد يخلو كتاب لمانغويل من ذكره…إلخ.
وهو ما زال مثابرا على القراءة وامتداحها، بل وتبجيلها، في زمنها الأخير الذي باتت فيه محتاجة إلى مُقْنع بضرورتها. رأى أن تلك المهمة واقعة على كاهله أولا طالما أنه بدأ التأريخ للكتابة من أولها، أي منذ علاماتها البدئية الأولى على الجدران والرُقُم. في كتبه الأخيرة ساجل أولئك المتشائمين بنهاية عصرها، مطبوعة في كتب وعلى أوراق، ساعيا إلى إبقائها حاضرة على الرغم من تغيّر الزمن عليها. وهو ظلّ في أثناء ذلك على مثابرته موسعا مروحة قراءاته من الكتب الأولى إلى ما يتحصّل له من الإصدارات الجديدة.
أغلب كتاباته تعبير عن افتتانه بما يقرأ، ودعوة الآخرين للاهتداء إلى تلك الفتنة. ولهؤلاء الأخيرين، كانت قراءة مانغويل كشفا لما يكمن مختبئا في ثنايا النصوص وقيعانها، بذلك يبدو قارئا لقرّائه، مبيّنا لهم أن ما يأتيهم مما يقرأونه بأنفسهم قليل إذ دائما هناك معان لا تتفتح. وربما جعلهم يتساءلون إن كان بعض افتتانه متأت من شطحِهِ ونزوعه إلى الاحتفال. وفي أحيان قد يبدو لهم أن الفتنة تلك، على رغم تنوّعها، تذهب في طريق واحد مصدره حماسة مانغويل الدائمة لكل ما يقرأ.
إنه القارئ الكاشف إذن. نافخ الحياة في الكلمات. لكنها حياة متألّفة مما تحمله الكتب، أقصد أننا لا نقع على مقارنة لتجربة معيشة بما ورد في نصّ. التشبيه يأتي من طرفين هما نصّان، وربما يدخل إليهما طرف ثالث هو بدوره نصّ ثالث. لذلك ظلّ قارئ مانغويل يتساءل كيف يمكن أن تكون الرواية التي يكتبها، هو المشتغل دائما باستخراج الأفكار من أعمال الآخرين، الروايات غالبا، أو مما يدور في فلك الروايات.
«عاشق مولع بالتفاصيل»* هي ما ينتظره قرّاء مانغويل هؤلاء، إنها عن أناتول فازابيان الذي عاش في بواتييه في فرنسا في حقبة ما بين الحربين العالميتين، حيث كان يعمل في حمام عمومي، وهذا ما كان يناسب موهبته الفذة المذهلة في التلصّص والتقاط التفاصيل. وهنا تكفي التفاصيل بذاتها، منفصلة أو مجتزأة من الصورة الكلية أو الكيان العام الذي تنتسب إليه. وهنا أيضا، كما دائما على مدار الرواية، يعود مانغويل، في تفسيره لموهبة فازابيان تلك، إلى قراءاته مقارنا بين فن الموزاييك وفن البلازون الذي ساد في بواتييه ليصل إلى أن بطله كان بلازونيا في كتابة نصوصه الشعرية.
وقد انتقل الشاب صاحب الموهبة بعد ذلك من الكتابة إلى التصوير الفوتوغرافي، بعد لقائه صاحب دكان يابانيا مهتما بالتصوير. نحن هنا أمام سرد جزئي لتاريخ هذا الفن القائم على حبس الضوء، لكن ليس من دون التدخل الكتابي لمانغويل في التنقل بين مراحل هذا التاريخ ومحطاته. ومن تلك التعريفات المستمرة، الغالب على صياغتها الافتتان الموصوف أعلاه، يسعى مانغويل إلى تتبّع ذلك القليل من حياة فازابيان المأساوية، ودائما في مدينته بواتييه المعرّف تاريخها هي أيضا.
وعلى جاري عادته يتابع مانغويل قراءته للكتب التي بينها تلك التي جمع منها حكاية ذلك الشاب، وكذلك الكتب الأخرى التي روت تواريخ وأوصافا للمحيط المكاني والزماني لعيشه. إننا هنا إزاء واحد من كتب مانغويل التي، لشدة احتفائها بما قرأ مؤلِّفها، تبدو عاجزة عن الإفلات من الثقل الذي يأسرها. لو قدّر لروائي مثل وليم فوكنر أن يعطي رأيا بكتاب مانغويل هذا لقال عن صاحبه أنه يتلذّذ بالكتابة أكثر مما ينبغي. إنها الأفكار التي تصنع متعة القراءة هنا، التأويلات التي ينبغي لها أن تُدهش عند كل واحدة من ومضاتها كما أن تتلاحق ومضة بعد أخرى، وأن يتشارك قارئها مع كاتبها، أو أن يلتقيا، في لحظات انبثاقها من السطور.
فازابيان المولع بالتفاصيل كان ينتظر كاتبا مثل مانغويل. ذلك الحيّز الضيّق الذي يشغل العين المتلصّصة وحدها، يحتاج إلى قدر من التركيز والدقة، وإلى موهبة في التأويل تماثل موهبة الشاب فازابيان في نسج هيئات كاملة انطلاقا من الأجزاء وحدها. لا أعرف إن كانت حياة ذلك الشاب قد انتهت، في واقعها، تلك النهاية المأساوية المتمثّلة بمحاولته بثّ الحياة في الأجزاء المصورّة من الأجساد والاتصال بها حسيا وجنسيا. كان الكتاب في حاجة إلى ذلك ليسمّى رواية.
*«عاشق مولع بالتفاصيل» رواية لألبرتو مانغويل صدرت عن «دار الساقي» بترجمة يزن الحاج، 94 صفحة، 2016.

m2pack.biz