خيال الجماهير (أو مخيلة الجماهير) 3من اصل3
كل ما يؤثر على مخيلة الجماهير يقدم نفسه على هيئة صورة مؤثرة وصريحة مخلصة من كل تأويل ثانوي، أو غير مصحوبة إلا من قبل بعض الوقائع العجيبة الساحرة: كالنصر الكبير، أو المعجزة الكبيرة، أو جريمة كبيرة، أو أمل كبير. ومن المهم هنا عرض الأشياء ككتلة واحدة وبدون تبيان منشئها أو ولادتها. فمائة جريمة صغيرة أو مائة حادث صغير لا تؤثر أبدًا على مخيلة الجماهير ولا تحركها. ولكن جريمة واحدة كبيرة أو كارثة واحدة كبيرة تؤثران عليها بعمق حتى ولو كانت نتائجهما أقل بكثير من النتائج القاتلة لمائة حادث مجتمعة. إن وباء الأنفلونزا الكبير الذي أهلك في باريس خمسة آلاف شخص في بضعة أسابيع لم يؤثر إلا قليلًا على المخيلة الشعبية. فهذه المذبحة الكبرى لم تتجسد في صورة مرئية ومكشوفة وإنما فقط من قبل التأشيرات الأسبوعية للإحصائيات. ولو حصل في نفس اليوم وعلى الساحة العامة حادث أودى بحياة خمسمائة شخص فقط بدلًا من خمسة آلاف كأن يقع برج إيفل مثلًا لولد تأثيرًا ضخمًا وهائلًا على النفوس. والخسارة المفترضة لقارب عابر للأطلسي انقطعت أخباره واعتقد أنه غرق في وسط البحر أثر بعمق طيلة ثمانية أيام على مخيلة الجماهير. هذا مع العلم أن الإحصائيات الرسمية بينت أنه قد غرق في نفس السنة ألف قارب وزورق. ولم تكترس الجماهير لحظة واحدة لهذه الخسارة الجسيمة التي تزيد أضعافًا مضاعفة من حيث الأرواح البشرية والسلع عن الخسارة الأولى.
نستنتج من ذلك إذن أنه ليست الوقائع بحد ذاتها هي التي تؤثر على المخيلة الشعبية، وإنما الطريقة التي تعرض بها هذه الوقائع. وينبغي على هذه الأحداث عن طريق التكثيف إذا جاز التعبير أن تولد صورة مؤثرة وأخاذة تملأ الروح كالهوس. إن معرفة فن التأثير على مخيلة الجماهير تعني معرفة فن حكمها.