دول متقدمة تتجه لتطبيق مفهوم «مال الهليكوبتر» كبديل لسياسة التيسير الكمي
يحاول الاقتصاد العالمي استعادة توازنه المفقود منذ الأزمة المالية التي اندلعت في تشرين الأول (أكتوبر) عام 2008، وما أسفرت عنه من ركود اقتصادي أوروبي، وتراجع معدلات النمو الاقتصادي في الصين، وسياسات مالية مضطربة في عدد كبير من بلدان العالم.
وحذرت وكالة “موديز” للتصنيف الائتماني من مخاطر الديون في الاقتصادات الناشئة، وجاء في تقرير صدر حديثا للوكالة أن مشكلة المديونية في الأسواق الناشئة في تصاعد، وأن ذلك سيجعل تلك الاقتصادات عرضة لهزات عنيفة إذا ما تغير المناخ الاقتصادي الدولي سلبيا.
وأشار التقرير إلى أن ديون الأسواق الناشئة قفز من ثلاثة تريليونات دولار في عام 2005 إلى 8.2 تريليون دولار العام الماضي، وأن ديون القطاع الخاص في تلك البلدان تنمو حاليا بمعدل 14.3 في المائة سنويا مقابل 5.9 في المائة للقطاع العام.
ومع مرور الوقت وعدم قدرة الاقتصاد الدولي على كسر الحلقة المفرغة للأزمة الاقتصادية، فقدت العديد من الأسواق الناشئة ديناميكيتها الداخلية، التي كانت تعتبر الدافع الأساسي لتحقيقها معدلات نمو مرتفعة في الأوقات الاقتصادية الصعبة، التي ساعدت الاقتصاد العالمي على المضي قدما حتى في ظل تراجع معدلات النمو في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان، والآن تمر خمسة بلدان رائدة في الاقتصادات الناشئة وهي البرازيل والهند وإندونيسيا وجنوب إفريقيا وتركيا بأوقات عصيبة من جراء الضغوط المتزايدة على عملتها الوطنية.
وتتمثل أزمة العملات في الاقتصادات الناشئة في الوقت الحالي في حالة من عدم الاستقرار والتذبذب الذي تواجهه بشكل دائم، وبقدر ما يعكس التأرجح المتواصل في قيمة العملات المحلية عدم الاستقرار الاقتصادي، فإنه يفتح المجال أمام التكهنات والمضاربة على العملة في الأمد القصير، ليوجد بذلك مزيدا من الإرباك الاقتصادي لصانع السياسة المالية، ويحد من تدفق الاستثمارات الأجنبية بما لها من تأثير إيجابي على الاقتصاد الوطني، وذلك نظرا لخشية المستثمرين الأجانب والمحليين من الانعكاسات السلبية لتذبذب قيمة العملة المحلية على قيمة استثماراتهم وأرباحهم.
الدكتور توماس بيري الخبير المصرفي وأحد الأعضاء السابقين في لجنة السياسات المالية لبنك إنجلترا يقول ل”الاقتصادية”، إنه يمكنا القول بأن عملات الاقتصادات الناشئة تواجه أزمة إذا انخفضت أمام الدولار بنحو 20 في المائة، وهذا ما حدث بالفعل للعديد منها بل إن بعضها مثل الروبل الروسي فقد تقريبا 45 في المائة من قيمته أمام نظيره الأمريكي.
وحول أسباب هذا الوضع يشير بيري إلى أنه يمكننا القول إن جزءا ملموسا من الأوضاع السلبية التي تتعرض لها عملات الأسواق الصاعدة، يعود إلى المناخ الدولي السائد من جراء الاستخدام المكثف للسياسات المالية من قبل البنوك المركزية في البلدان المتطورة، فهذا الاستخدام المكثف عبر سياسة التيسير الكمي ومعدلات الفائدة المنخفضة، يدفع برؤوس الأموال الأجنبية إلى البحث عما يمكن وصفه بملاذ آخر للاستثمار، وهذا أمر إيجابيي للأسواق الصاعدة يعزز قدراتها الاقتصادية، ولكن يعززها لأسباب طاردة في الاقتصادات المتقدمة، وليس لعوامل جذب ذات طبيعة دائمة في الاقتصادات الناشئة، والنتيجة أن عملات الأسواق الصاعدة تقيم في مثل تلك الظروف بأعلى من قيمتها الحقيقية، وعندما تبدأ الاقتصادات المتقدمة في استعادة زمام المبادرة فإن عملات الاقتصادات الناشئة تنخفض بشدة.
وتشير التقديرات الدولية إلى أن الدولار ارتفع في مواجهة سلة من عملات الاقتصادات الناشئة بنحو 9.4 في المائة منذ صوت الناخب البريطاني لمصلحة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ويعزز انخفاض قيمة معظم عملات الاقتصادات الناشئة في مواجهة الدولار أو ارتفاعها بنسبة طفيفة – كما حدث في تركيا أخيرا – من زيادة التدفقات الصافية لرؤوس الأموال المستثمرة في سندات الخزانة لتلك البلدان، وبلغت الأسبوع الماضي 4.9 مليار دولار بزيادة نحو مليار دولار مقارنة بما كان عليه الوضع قبل أسبوعين.
وأوضح ل “الاقتصادية”، سيمون هارولد المحلل المالي في بورصة لندن، أن العائد على السندات الحكومية في الاقتصادات المتطورة منخفض للغاية، ومن ثم تمثل عوائد سندات الخزانة للاقتصادات الناشئة فرصة طيبة للاستثمار، فأحد أفضل السندات ذات العائد الدولاري في العالم أداء منذ تصويت الناخب البريطاني للانسحاب من الاتحاد الأوروبي هي السندات الحكومية في السلفادور ومنغوليا وزامبيا.
إلا أن هذا الوضع الذي يتضمن تراجعا في قيمة العملة مع تدفق لرؤوس الأموال الدولية للاستثمار في سندات الخزانة في الوقت ذاته، يمثل في نظر البعض مزيجا سيئا للغاية إذا ما قررت البلدان الرأسمالية عالية التطور إعادة النظر في سياستها المالية الراهنة، والتحول من سياسة التقشف إلى سياسات مالية بديلة.
وتقول ل “الاقتصادية”، الدكتورة إيلنور بولارد أستاذة الاقتصاد الدولي في جامعة كامبريدج، إنه يجب وضع مجموعة من النقاط بجوار بعضها البعض لمعرفة المخاطر المحدقة بالاقتصادات الناشئة في الفترة المقبلة، فالبلدان الرأسمالية عالية التطور تطبق سياسات تقشفية منذ ثمانية أعوام تقريبا، تضمنت خفضا لأسعار الفائدة حيث قاربت الصفر أو أدنى من الصفر كما هو الحال في اليابان، والنتيجة أن هناك سندات خزانة في البلدان المتقدمة قيمته 12 تريليون دولار والعائد عليها صفر، ثانيا أن تصويت الناخب البريطاني للانسحاب من الاتحاد الأوروبي يكشف عن صعود في السياسات الشعبوية وسيتضمن ذلك حتما تراجعا عن سياسات التقشف المتبعة في أوروبا.
وتضيف بولارد أنه من الواضح أن الاقتصادات الغربية تتجه إلى تطبيق مفهوم “مال الهليكوبتر”، فبنك أوف أميركا ميريل لينش أجرى استطلاعا للرأي ل 160 من صناديق التحوط، وكانت النتيجة أن 39 في المائة منها توقع أن تلجأ البلدان المتقدمة خلال عام من الآن إلى تطبيق سياسة “مال الهليكوبتر” كبديل عن سياسة التيسير الكمي، وسيتضمن ذلك أن تقوم البنوك المركزية بتحويلات مباشرة إلى القطاع الخاص دون تدخل من وزارة المالية.
ويعتقد البعض أن تلك التطورات ستؤثر سلبا على قيمة العملات في الاقتصادات الناشئة، إذ ستؤدي إلى انسحاب رؤوس الأموال الأجنبية، خاصة المستثمرة في مجال سندات الخزانة، وينبئ هذا الوضع بأن البنوك المركزية ستلعب دورا شديد الأهمية في اقتصادات الأسواق الصاعدة خلال الفترة المقبلة، من أجل الحد من انخفاض قيمة العملة المحلية، لكن هذا التدخل المحتمل من قبل البنوك المركزية يثير خشية بعض الاقتصاديين من تبني سياسات مالية مصطنعة أو شديدة المركزية تؤدي إلى تآكل مناخ الليبرالية الاقتصادية الذي تحقق في تلك الاقتصادات في السنوات القليلة الماضية.صص
وأشار ل “الاقتصادية”، آدم بيرسي من المجموعة الدولية للاستثمار، إلى أن نقطة الضعف الرئيسة الكامنة في عملات الاقتصادات الناشئة عامة، أنه مع كل هزة اقتصادية فإن المستثمرين المحليين والدوليين يتخلون عن العملة المحلية لمصلحة الدولار أو اليورو، وهذا يوجد أزمة حقيقية لأنه يجبر البنوك المركزية على التدخل في تحديد سعر الصرف لوقف التدهور. وأضاف بيرسي أن هذا يتطلب في كثير من الأحيان التضحية بجزء كبير من احتياطي العملة الأجنبية للحفاظ على قيمة العملة الوطنية، وهذا ما قامت به روسيا والأرجنتين والبرازيل وإندونيسيا وتايلاند، وغالبا ما ينتهي المطاف بمحاولة الحصول على قروض من البنك الدولي، مشيرا إلى أن تراجع قيمة عملات الاقتصادات الناشئة ينعكس بشكل مباشر في تعميق أزمة المديونية العامة.
ويعتقد بعض الخبراء المصرفيين، أن مشكلة ديون الاقتصادات الناشئة مشكلة في حاجة إلى مزيد من إلقاء الضوء عليها، خشية أن يؤدي تجاهلها لفترة طويلة إلى انفجارها، خاصة إذا ما تعرضت عملات تلك البلدان إلى مزيد من التراجع من جراء تخلى الاقتصادات الأكثر تطورا عن سياسة التقشف.
وأوضح ل “الاقتصادية”، الدكتور إيان تيم أستاذ المالية العامة في جامعة كامبريدج، أن انخفاض قيمة العملات في العديد من الاقتصادات الناشئة مقابل الدولار يعد مشجعا للمستثمرين الدوليين للاستثمار سواء في مشاريع مباشرة أو في سندات الخزانة، ولكن يجب أن نلاحظ أن التحليل التقني في الاقتصادات الناشئة يصب بلا شك في مصلحتها، حيث يمكن القول إنه لا يزال أمامها نحو 20 في المائة نسبة ارتفاع مستقبلي لجذب الاستثمارات.
وأشار إيان تيم إلى أن التحليل الأساسي يعطينا صورة مختلفة تمام للوضع الاقتصادي في تلك البلدان، فمعدل الربح الاستثماري المقيم بالدولار في تلك البلدان في تراجع، فعلى سبيل المثال انخفض معدل الربح في الأسواق الناشئة في آسيا بنحو 3.2 في المائة.