ذكرى مغامرة
هذا الأسبوع، مرت أربع سنوات بالضبط على دخولي في مغامرة أو حماقة لا أدري إن كانت جيدة أم لا؟ وذلك حين قررت فجأة، أن أعيد كتابة نص لي من زمن البدايات، وأصيغه بما اكتسبته بعد ذلك من خبرات في الكتابة، حسب ظني، وأعيد نشره أملا أن يغفر لي القارئ، الذي قد يكون تعرف إلى النص الأول، كثيرا من الثغرات القديمة، التي كانت موجودة في النص، وحاولت ألا تكون موجودة هنا.
تلك كانت قناعة طارئة اتخذتها، وأخذت أبحث عمن يكون فعل ذلك من قبل، ولم أعثر على من أعاد كتابة نص كامل، على الأقل في الكتابة العربية، عثرت على استخدام فكرة النص القديم في آخر جديد، وعلى من استخدام شخصيات وردت هنا في نصوص سترد لاحقا، باعتبار أن الشخصيات من صنع الكاتب، ويمكن أن تتمدد عوالمها في عوالمه، ما لم يهجر البيئة التي كتب فيها النص الأول إلى بيئة أخرى غريبة على الشخصيات.
بالتالي أعدت قراءة نصي مرات عدة، لأستوعبه جيدا، ثم رميت الكتاب وبدأت أكتب من جديد. كان الذي فعلته هو تقليص لغة الشعر التي كنت متأثرا بها في البدايات، بقدر المستطاع، وزيادة عدد الشخصيات التي يقوم النص على عاتقها قليلا، وتلك التي أبقيتها، وسعت كثيرا من خطواتها وملأت بها مواقف كثيرة، إما كانت موجودة من قبل، وإما جاءت مع الكتابة الجديدة، هكذا، ثم أرسلت النص في النهاية للنشر، وكتبت تقديما صغيرا، ذكرت فيه أنه إعادة كتابة لرواية بعينها، وأظنني أخطأت في هذا، لأن الأمر كانت له تداعيات كثيرة، ورغم أن النص اختلف تماما، ولم يعد يشبه القديم إلا في بعض الشخصيات والبيئة وبالطبع الفكرة، مع تغير كل المعطيات الأخرى المطلوبة.
في البداية كنت سعيدا بالفكرة، وكتبت في مقال لي، إن الأعمال الروائية يمكن إعادة كتابتها من جديد، حتى وهي منشورة، وأي مقارنة للنصوص يقوم بها القراء، ليست مجدية لأن الكاتب هو من غير معالم نصه، ويريد القارئ أن يذهب للنص الجيد مباشرة، تماما مثلما تعيد طلاء بيتك بآخر غير طلائه القديم، أو تعيد توزيع الغرف والأثاث، وغالبا لن تجد من يذكرك بأن الطلاء كان أصفر، وتلك الكنبة العريضة كانت في تلك الزاوية وهذا المقعد، لم يكن موجودا أصلا.
أقول كنت سعيدا في البداية وفي أول حوار صحافي لي، بعد نشر الكتاب سارعت بتأكيد نظريتي السعيدة، وما زاد سعادتي، ذلك التلقي النقدي الجيد للنص المعدل، حيث ذكر النقاد الذين تطرقوا له مآثر عديدة لم تكن حتى موجودة فيه، وأنه نص شبيه بألف ليلة وليلة، وأوصاف كثيرة لا أعرفها ولم أقصد كتابتها، وطبعا تلك مهمة النقد، لا مهمة الكاتب، والنقد كان قديما سيدا لكشف النصوص، قبل أن تتدهور وظيفته، ويغيب تماما عن الساحة.
الخسارة الأولى كانت من لجنة إحدى الجوائز المهمة، التي تقدم لها النص، وثمة مخاطبة مباشرة لي، أن أثبت بأن هذا النص ليس ذلك القديم حتى يمر من اللجان التي تقرأ النصوص وتقومها إن كانت صالحة للتسابق أم لا؟ وحقيقة استغربت من الموضوع، لكن تذكرت عبارتي التي كتبتها في أول الكتاب، عن مسألة إعادة الكتابة، ولما كنت أصلا غير راغب في ذلك التسابق، تقدمت برسالة لسحبه من المسابقة نهائيا، وقد كان.
المشكلة الثانية، جاءت من التلقي العام، التلقي المفترض أنه من قراء يقيمون النصوص بناء على قراءات حقيقية، وكان معظمها سلبيا، يتبع خطا واحدا وهو: كيف تعيد كتابة رواية منشورة؟
معظم من تطرقوا للنص، كتبوا تلك العبارة، وكانت بمثابة معول، هدم كل إنجاز حاولت تقديمه، وبالتالي اعتبرت النص، رغم أني أحببته، وأنفقت فيه وقتا ليس بسيطا، ورغم ما قيل فيه من نقد مؤثر ومن نقاد معروفين، واحدا من النصوص التي أخفقت بجدارة في الوصول إلى القراء، بسبب ما كان من المفترض أن يكون سببا، وهو عبارتي الافتتاحية، التي تقدمه وتصفه بالنص الذي أعيدت كتابته.
المشكلة الرئيسية هنا إذن ليست إعادة الكتابة في حد ذاتها، لنصوص مغمورة من نصوص بدايات كاتب لم يسمع بها أحد، وإنما توضيح ذلك للناس، وعندي نصوص متعددة من زمن البدايات، يمكنني الآن أن أعيد صياغتها من جديد، من دون أي ذكر للماضي، وتدخل في المسابقات، وقد تحتل فقرة في قائمة ما أو لا تفعل، المهم، أنها ستدخل من دون لفت للنظر، وقد تجد حظا جيدا من التقييم عند القراء، بوصفها نصوصا طازجة، ولي رواية اسمها «نار الزغاريد»، قديمة وغير معروفة، عن بيئة أقصى شرق السودان، داخلها عشرات الحكايات، التي تؤهلها لمسألة إعادة الكتابة أو إعادة التوظيف. حكايات عن القبائل، عن الحب، عن الإغاثة وكيفية استقبالها هناك. القراء لا يفهمون التجارب التي قد ينهك الكاتب نفسه، في محاولة تطبيقها، هم يسيرون في خطوط مستقيمة خلف ذائقة معينة، تتعطل حين تصطدم بأول تجربة غريبة تصادفها، وكان النص المعدل لي مع الأسف، نصا عاديا، لولا مقدمته.
أخلص إلى أن الكاتب ينبغي أن يفعل ما يراه صوابا في أثناء بحثه عن بدائل جديدة للكتابة المستهلكة، هو يقرأ ويطلع من أجل أن يحصل على الخبرة والمعرفة باستمرار، وهو يكتب ما يراه مهما، وربما لا يكون مهما أصلا، ولكن دائما ما نجد في هذه السكة الموحلة، من يتجاهل كل شيء ويعود بالكاتب إلى سؤال الكتابة القديم الذي أبى أن يموت أبدا:
لماذا تكتب؟
ولا أحد حقيقة رد حتى الآن بجدارة، على هذا السؤال الذي لم يعد تقليديا فقط، لكنه شيخ كل المفردات التقليدية.
كاتب سوداني