رحلتي مع العربية
الشتاء قارس. تتساقط الأمطار بغزارة ويتحدث سكان المدينة عن ثلوج مقبلة في الأفق. لندن. أحد مساءات ديسمبر/كانون الأول. أجوب قلب المدينة في حافلة حمراء ذات طابقين في اتجاه بوش هاوس، دار الخدمة العالمية لإذاعة «بي بي سي» آنذاك. وفي ذهني فكرة. فكرة ثابتة لم تغادر خاطري منذ هذه الإقامة اللندنية التي أرسلني فيها والداي عند عمتي في لندن لتعلم الإنكليزية.
أجل، سأجتهد وسع طاقاتي لامتثل لتوصيات الوالدين فأعود إلى فرنسا، وقد ادخر رصيدي اللغوي مزيدا من المفردات والعبارات الأصيلة التي يتداولها أهل لغة شكسبير .
لكن الفكرة بقيت راسخة ثابتة ظلت تراوح مكانها: «أريد أن أراهم و سأراهم». هم، نجوم بي بي سي العربية، أبناء وبنات «هنا لندن، هيئة الإذاعة البريطانية» الذين باتوا يطربون أسماعي بعربية في قمة الفصاحة والنصاعة والبيان منذ نعومة أظفاري .علمت أن موقف الحافلة في منطقة Strand المعروفة بمسارحها غير بعيد عن Coven Gardent تقف الحافلة أمام مبنى «بوش هاوس» الذي تبهرني فخامته. أقطع الطريق ثم أعبر الباب الزجاجي الكبير الذي يدور على نفسه مثل أبواب كبريات المحلات التجارية العريقة التي كنا نرتادها في فرنسا صغارا. أتوجه نحو مكتب الاستقبال فأخبر المضيفة أن لدي موعدا.. ترفع المضيفة هاتفا ضخما فتتحدث قليلا ثم تمرر لي الجهاز. يأتيني صوت أتخيله صوت أحد العاملين في ال»قسم العربي»….
«مين حضرتك؟» يقول الصوت بنبرة مستطلعة أستشعر فيها حاجة إلى مزيد من التفسير. هنا، أرد بكل ما أوتيت من حماسة شبابية تدعمها رغبة أكيدة في استعراض عضلات لغوية عربية حديثة النشأة :
– حضارتي غربية، فرنسية، أوروبية! لديّ موعد لزيارة القسم العربي !
أريد الانطلاق من هذه الواقعة اللغوية المضحكة، التي نجمت عن تشابك حصل عندي بين الفصحى والعامية المصرية، التي لم أتمكن من استيعابها يومها، وهو تشابك وقف سدا منيعا أمام قدرتي على استيعاب الكلام على وجهه الصحيح في هذه اللحظة. هذه اللحظة، لخصت نتاج الطريقة التي تعلمت بها اللغة العربية ، ولو اعتمدت على مقال خبير الألسن البريطاني Ferguson «Glossia of the World «، لأمكنني القول: «لقد اختلطت عليّ الملاسن» وهي كلمة اخترعها بعض خبراء اللسانيات المختصين بالمنطقة العربية، للدلالة على التجليات الألسنية الشتى التي تطبع اللغة العربية بين فصحى قديمة وفصحى حديثة وعامية متداولة داخل بلد معين، وأخرى منتشرة في مجموعة دول، ولغة تمزج عبارات فصيحة بأخرى مستقاة من العامية، ولغة وسطى حديثة يصنف فيها عادة الأدب الحديث واللقاءات الرسمية والصحافة المكتوبة والمرئية، أي بعبارة أخرى، لغة الإعلام. لغة الإعلام نسمعها يوميا، لكننا لا نتداولها في مواقف المحادثة اليومية، ولكننا نسمعها يوميا .
هذا الكلام، أكرره، وبهذا الشكل، على مسامع طلابي باستمرار، وليس بالأمر الهين. لغة الإعلام حقل لغوي قائم بذاته، وهو مرآة يعكس تطور اللغة المتواصل. وإذا أخذنا اللغة العربية نموذجا فإننا نلامس هذا التطور بشكل واضح جدا. فلو قمنا بجرد سريع لما واكبته لغة الضاد من تطورات حاصلة في المجتمعات الحديثة لبدا لنا جليا كيف أنها- وكما أشار الشاعر المصري حافظ إبراهيم ، لا «تضيق عن اسماء لمخترعات». أجل عشرون عاما أو بالكاد مضت على بواكير نشاة مشهد إعلامي عربي غير مسبوق، تميز بانتشار فضائيات لا حصر لها، وظل للغة العربية الفصحى من هذا المشهد نصيب. فلو حاصرنا تشخيصنا في لغة الإعلام أمكن لنا أن نقول بأنها ولدت «فصحى جديدة» بل متجددة. فقد صارت اللغة أكثر من أي وقت مضى خاضعة لضرورة التأقلم المستمر مع متطلبات يفرضها واقع العصر، وهو واقع تحكمه تكنولوجيات التواصل الجديدة، التي غيرت طرق الوصول إلى المعلومة، ومنها طرق الوصول إلى الخبر. فلا «بريد إلكتروني» ولا «هاتف ذكي» ولا «رسائل مختصرة» ولا «تغريدة» ولا غيرها من مصطلحات من هذا النوع ستظهر بدون قابلية اللغة العربية على أن تكون أداة طيعة للإبداع اللغوي. ولا ذيوع ولا صيت كانا سيكتبان لهذه المصطلحات ولغيرها لو لم يفرض «ملسن» من ملاسن الضاد نفسه أكثر من غيره في المشهد اللغوي الحديث. هذا الملسن، هو الملسن الإعلامي، ذلك الذي لم يكتف بفرض نفسه على الشاشة وهو يتوجه إلى الملايين، بل أثبت نفسه في صفوف طلابنا وحرم جامعاتنا ليحدد المال الذي ستؤول إليه من الآن فصاعدا اللغة العربية الفصحى. ولئن أثبتت لنا لغة الإعلام شيئا فإنما تثبت أنها ضمان واقع لا أحد قادر على الإفلات منه، وهو أن اللغة تتطور. ولهذا السبب، لو قلت إني أحن إلى خبزي اللغوي الذي كنت أسمعه من «بي بي سي» مراهقا سأكون مقصرا. سأكون مقصرا لأنني سأذهب ضحية الاعتقاد بأن «عمرا ذهبيا» للغة ممكن. سأكون مخطئا لأنني سأحن إلى طريقة تعبير، طريقة وصف، طريقة تقديم كانت بنت زمانها، لكني سأكون بالتأكيد محقا أكثر لو قلت إن الإعلام إعلام زمانه مثلما اللغة ابنة زمانها، ومعها حقب التاريخ. ولهذا مهمة لغة الإعلام، لغة زماننا، جسيمة، فهي التي تصون من الآن فصاعدا تطور اللغة العربية وتطويرها.
٭ كاتب فرنسي