رواية الفراشة: كفاح سجين من أجل الحرية
تنتمي رواية الفراشة إلى أدب السجون، هي السيرة الذاتية لمحكوم سابق، الفرنسي هنري شاريير، المولود في 16 نوفمبر 1906 بمنطقة أرديش الفرنسية، والذي توفي في 29 يونيو 1973 بإسبانيا، وخلال حياته، وثق شاريير قصته عن السجون الفرنسية، في “الفراشة” التي نشرت لأول مرة سنة 1969، وبيع منها إلى حد اليوم 7 ملايين نسخة.
تم تحويل الرواية إلى عمل سينمائي لأول مرة سنة 1973، أخرجه فرانكلين ج. شافنر وقام بدور البطولة فيه النجم ستيف ماكوين وداستان هوفمان، مازاد في شعبية الرواية وحوّلها إلى أثر عالمي خالد.
يقدم شاريير، في سيرته الذاتية قصة كفاحه طوال سنوات للتحرر من السجن، لا فقط من الجدران وقفل السجان، بل من فكرة السجن التي زرعت في عقله هو وبقية السجناء، التي سيطرت عليه لما تبقى من حياته وكانت دافعه الأول لكسر الحصار النفسي الذي فرضته آلة القضاء الفرنسي عليه، وقدم من خلال رحلته الطويلة أيضا، صورة قاتمة عن فرنسا، دولة حقوق الإنسان التي لم تحترم حقوق مواطنيها، خلال فترة حساسة من تاريخ العالم الحديث زمن الحرب العالمية الأولى.
وفي ملحمة إنسانية واقعية تنضح بالتفاصيل الحية، نتبع خطى هنري شاريير أو “بابيون” كما درج رفاقه السجناء على مناداته في سجن الميناء، في دروب حملته بعيدا في سعيه نحو الحرية من “طريق العفن”.
المنفى.. بداية رحلة الهروب تبدأ الرواية بمشهد محاكمة شاريير أو بابيون، بعد تورطه في جريمة عنف نجم عنه الموت،كان من الممكن أن لا تصل العقوبة المؤبد، لولا غطرسة شاريير أمام المحلفين والقاضي، فجرت عليه حكما بالنفي مدى الحياة في سجن غويان الفرنسي، آكل الرجال كما يسميه المحكومون، والذي ندر أن استطاع أحد الهروب منه، لكن إصرار “بابيون” على العودة إلى الحياة من جديد دفعه لامتطاء المستحيل من أجل تحقيق حلمه.
هنري شاريير
“كانت ضربة قاصمة، إلى درجة أني لم أصحو منها إلا بعد ثلاثة عشر عاما، والحقيقة أنها لم تكن ضربة عادية فقد تألّب على تسديدها إلي الكثيرون”، بهذه الجملة لخص شاريير حكم المؤبد عليه، حكم رمى به في دهاليز سجن الميناء المعروف بقسوته وانعدام إنسانية القائمين عليه، تفاصيل حية حملت القارئ إلى ثلاثينات القرن الماضي، إلى عالم السجن والسجناء، أين يقبع المنبوذون، الخطرون على استقرار المجتمع وأمنه، ومنهم تخرج ملحمة إنسانية تضج بالبهاء والكمال.
الحرية..القيمة الأسمى مباشرة بعد النطق بحكم السجن مدى الحياة، تنتهي حياة المحكوم تماما، يتم محوه من خارطة المجتمع ليبدأ بعد ذلك فصل جديد وحياة مختلفة، ومنذ المحطة الأولى وهي سجن الإيقاف الانفرادي، يكتشف القارئ التعذيب بالصمت، حيث يترك المحكوم مع عبء تمضية 24 ساعة دون تسلية أو حتى ضوء عدى خيوط ضئيلة نفذت من شباك مسدود بألواح خشبية متهرئة يقع على علو أربعة أمتار، بينما تسمع أحيانا صرخات أحد المحكومين الذ جنّ من الصمت المطبق حوله.
هكذا كانت المحطة الأولى في حياة “بابيون” الجديدة حتى لحظة رحيله إلى سجن غويان الشهير.
منذ اللحظة الأولى، يبدأ بابيون في التخطيط للهرب من السجن، انحصرت خيالاته بادئ الأمر في الرجوع إلى باريس والانتقام من القاضي والمحلفين الذين رموا به في حفرة الموت، ونشط خياله في ابتداع أساليب التنكيل بهم، ورغم فشل السجن كعقاب تأديبي ردعي في كسر روح بابيون، إلا أنه نجح في تغيير مسار تفكيره من الانتقام إلى التوق للخروج من دائرة القمع بأكملها نحو حياة أخرى تكون أكثر إنسانية، ونحو بداية جديدة على أرض مغايرة تزدري قيم “الإنسانية المزيفة” التي روجت لها فرنسا في ذلك الوقت، في دولة أخرى تبنت سجينا قاتلا هاربا وقدمت له فرصة ثانية للحياة.
تبقى الحياة حياة حتى داخل السجن، تدور داخل الأسوار وتحت أنظار المراقبين فسيفساء ملونة من العلاقات الإنسانية المتشعبة التي صنعت مجتمعا بأكمله، تجارة وتسلية وعمل وعلاقات حب، تناسيا للعالم الخارجي الذي لفظهم، لينفي المحكومون هم أيضا من سبق أن نفاهم دون رحمة، بسبب تهم كالسرقة.
“من حق المجتمع أن يدافع عن نفسه، لكن من العار أن تكون لدى مجتمع متحضر مثل فرنسا عقوبة لاحقة وهي النفي.. ففي هذا أعظم تفريغ لمعنى الحضارة الفرنسية. ليس من حق شعب أن ينتقم بصورة سريعة وأن يخلع الأشخاص الذين أساؤوا إلى المجتمع، فهؤلاء أولى بالعناية بدلا من معاقبتهم بصورة لا إنسانية”، هكذا هنري شاريير.
من داخل هذا الخليط الاجتماعي العجيب يعثر “بابيون” على رفاق الهروب، رحلته الأولى التي ظن، أنها الأخيرة جاءت بعد سنة ونيف على وصولهم إلى مستعمرة “سان دوره”، وفي عرض البحر، وفي مركب يشرف على الغرق، خاض “الرفاق” الثلاثة رحلة خطرة نحو الحرية التي ظنوا أنها قاب قوسين أو أدني، لكن الرحلة تنتهي بهم في سجن جديد هو سجن “ريهوشا” في كوراساو، لتتوالى الأحداث بعد ذلك حتى تؤدي أخيرا إلى خروج شاريير من “طريق العفن” نهائيا، لكن بعد أن ترسخت في ذاته قيم تقدس الحياة والحرية، وعاش من أجل تحقيقها وخسر في سبيلها أهم أشخاص عرفهم في حياته.
الوسوم
أدب السجون