رواية «بغداد وقد انتصف الليل فيها» لحياة الرايس.. تعالق السيرذاتي والتاريخي
يتيح مفهوم إمبريالية الجنس الروائي للكتابة الروائية أن تخرج من الصفاء نحو التهجين وتجمع داخلها ما أمكن من الخطابات. فالرواية عالم شاسع تتجاور فيه الأنواع الأدبية والخطابات على اختلافها، وتصنع جمالية جديدة. وهو ما فتح باب دراستها لنظرية التعالق النصي. ويعتبر تعالق السيرذاتي مع التاريخي نموذجا لهذا التداخل والتفاعل، حيث يمتزج النص السيرذاتي بالتاريخي ويحمل أصداء التاريخ، إذ تبرز بين مفاصله أحداث تاريخية مرجعية أو متخيلة. ولعل رواية «بغداد وقد انتصف الليل فيها» تدخل في هذا النهج الروائي، فهي سيرة ذاتية يخترقها التاريخ فتختلط فيها كتابة الذات بسيرة المكان، فكيف تظهر السير ذاتية في هذه الرواية وكيف تتفاعل مع التاريخ؟
السيرذاتي المرجعي:
تعتبر الكتابة السيرذاتية صنفا من أصناف الكتابة المرجعية، فهي تتمسك حقا أو وهما بالمرجع الذاتي، وتنطلق منه وتصيغه بأشكال مختلفة، إذ للسيرة الذاتية أجناسها وأنواعها المخصوصة مثل اليوميات والمذكرات والرسائل. وهذه الرواية التي نتناولها لا يمكن أن تفلت من هذا الطابع السيرذاتي، فهي تفصح في عتباتها عن توجهها السيرذاتي والمرجعي، إذ تضع حياة الرايس مؤشرا أجناسيا يخصص جنس العمل ويؤكد صلته بالمرجع الذاتي. فتكتب تحت العنوان الرئيسي «مذكراتي الجامعية في بغداد»، وتضيف في صفحة الغلاف الداخلية، إنها رواية سيرذاتية تروي سيرتها وسيرة المكان وسيرة أشخاص عاشرتهم وعاصرتهم. ويتدعم الخطاب الذاتي في العتبات بتصدير يعد بدوره خطابا واصفا ويلخص ذاتية الكتابة باعتبارها وهما جميلا لحفظ الذاكرة إذ تقول: «قدري أن أكتب خلودي بالكلمة كوهم جميل يساعدني على البقاء». ويتضح هذا التوجه في المقدمة التي وضعتها جليلة طريطر التي تؤكد الطابع السيرذاتي للرواية. فهي تعتبر أن هذا النص «يعرض علينا مغامرة سيرذاتية». هذه الإشارات التي وردت في العتبات يدعمها المتن الروائي، فالكاتبة تكتب سيرتها طالبة تونسية في بغداد متناولة قرار السفر إلى بغداد وأجواء الدراسة في تلك الفترة وتتخلص إلى بداية رحلتها في الكتابة وإلى اعتبارها عروس المربد، إثر عودتها إلى بغداد عروسا وغير ذلك من الأحداث الذاتية. وتبدو الكتابة السيرذاتية في هذه الرواية مرجعية، إذ تذكر الكاتبة الكثير من الشخصيات بأسمائها التاريخية والكثير من الأحداث بتواريخها وفضاءاتها الدقيقة. وهو ما يجدد التساؤل عن كتابة الذات والحدود الفاصلة بين المرجعي والمتخيل.
التاريخي:
هذا السرد الذاتي يتعالق مع سرد تاريخي يروي سيرة المكان ويتناول بعض الأحداث التاريخية، وهو ما جعل الرواية في جانب منها وثيقة مثلما أشارت الكاتبة على ذلك في صفحة الغلاف، فهي تعدها وثيقة تاريخية اجتماعية وسياسية شاهدة على العصر والمكان، فالرواية مفعمة بالتاريخ وبرائحة بغداد القديمة.
هذا التعالق يجعل الكتابة السيرذاتية تمتزج بالتاريخ وهو يدخل في إطار تفاعل ما بين الروائي والتاريخي، فتخييل التاريخ ونقله إلى عوالم الرواية ذات الطابع الجمالي المتخيل يشهد بدوره نوعا من التذويت، فقد أصبحت الكتابة الأوتوغرافية سبيلا لكتابة التاريخ، وأصبح التاريخي يتفاعل مع السيري «فلقد انتعشت كتابات سير الحياة وسير الناس العاديين، وسير فكرية واستطاعت ان تفرض نفسها كحقل جديد يتصالح فيه التاريخ مع الرواية، لإحياء الذاكرة التاريخية» و«أصبح جنس السير ينتعش ويفرض نفسه من جديد على الكتابات التاريخية والروائية، مثله في ذلك مثل الحدث سابقا. لقد أعيد الاعتبار ضمنيا إلى التاريخ الفردي من زاوية ما أصبح يعرف برهانات كتابة البيوغرافيا»، على حد قول الباحث خالد طحطح في كتابه الموسوم ب«الكتابة التاريخية».
ولعل القارئ يعثر على ما يدعم هذا التوجه، فالرواية تكتب التاريخ أيضا وترحل بنا إلى المكان، فيفوح عبق بغداد والماضي في كل سطر. وترحل بنا الذاكرة إلى أحداث وأوضاع تاريخية عديدة، فتتحدث عن الجامعة العراقية والطلاب العرب القادمين من العواصم العربية، وعن حزب البعث والكثير من قياداته. وتتناول الرواية أيام الحرب العراقية الإيرانية وحياة العراقيين آنذاك. ولا تهمل الكاتبة الحديث عن الوجه الثقافي وعوالم المجلات العراقية الشهيرة التي انطلقت منها تجربتها الإبداعية، كما تتحدث عن مهرجان المربد باعتباره مهرجانا شعريا تاريخيا. ولا تخلو الرواية من الحديث عن التاريخ الثقافي التونسي، وهو ما جعل رواية «بغداد وقد انتصف الليل فيها» تلامس الذاكرة وترتقي إلى مطاف الشهادة التاريخية عن عصر مهم.
فهذه الرواية السيرذاتية تحتضن التاريخي وتحتفي به، فهي تحتفل بذاكرة الذات وذاكرة المكان، وهي تعتبر واحدة من التجارب الروائية العربية والتونسية، التي تتعاطى مع الرواية بانفتاح على عوالمها المجاورة ومع التاريخ، برؤية جديدة تخلصه من العزل والانغلاق والصرامة وتدفع به نحو العوالم الجمالية والفنية التي تكسبه إنشائيته.
٭ كاتب تونسي