سيرة ذاتية لسجين تونسي سابق

سيرة ذاتية لسجين تونسي سابق

سيرة ذاتية لسجين تونسي سابق

مازالت النّصوص السّردية التونسية المكتوبة بألسنة المقموعين ممن عانوا من ويلات النظام التونسي السابق، تنهال على الساحة الأدبية لافتة النظر إلى ظاهرة أدبية تميز المشهد الأدبي التونسي في هذه المرحلة، وهي ظاهرة أدب السجون ومحاولة تقديم شهادات مرة عن زمن مضى، ولعلها محاولة لإفراغ ما تكلس في الذاكرة من حكايات ووقائع كانت ممنوعة. والحقيقة أن تسمية أدب السجون قد تكون تسمية ضيقة لهذه الموجة التي تحاول تقيؤ ما ظل في الذاكرة الجريحة من الزمن السابق، من اختناق سياسي واجتماعي وفكري وهي تميز جانبا مهما من النصوص السردية التونسية الجديدة، التي تختلط كتابتها بين الماضي والحاضر. ولعل كتاب «مضايا.. صراع الذاكرة والجدار» لمراد العوني العبيدي، وهو سجين سياسي سابق أصيل جهة الكاف وتم سجنه في التسعينيات، يعد من آخر العناوين الواردة في هذا المجال.
والحقيقة أن هذا الكتاب رغم تدوينه الدقيق ليوميات سنوات السجن وحكايات تنقله بين سجون البلاد وعرضه للكثير من مواقف التعذيب، يتجاوز أن يكون مجرد أدب سجن يروي حكايات التعذيب داخل السجن فقط، وانما هو كتاب يوثق لمرحلة مهمة من تاريخ البلاد ويمكن الانطلاق منه في مسائل عديدة لفها النسيان، فمراد العبيدي على حد تعبير محمد كمال الحوكي في تقديمه للكتاب بمقال عنوانه «ذاكرة متحركة» كان في النص «طفلا وتلميذا وسجينا محاصرا ومقهورا وعاشقا وحالما وطموحا» فمن هذا التنوع يصبح الكتاب أعمق من تجربة أدب السجون وأوسع، فهو على حد قول الحوكي «نص يصعب تصنيفه وإن كانت الساحة ستدرجه في ادب السجون بمجرد حديثه عن السجن والمعاناة داخله، ولكنه في الحقيقة غير ذلك. لقد صاغ مراد كتابه من تناثر ذاكرة منفلتة متمردة».
فالكتاب تجربة متكاملة وخلاصة سنوات انطلقت من لحظات الحلم والبداية وامتدت لتطال لحظات النزيف والتعب، فنجد استعادة لزمن الطفولة بما فيه من ألعاب بريئة مثل لعبة الأرجوحة «في القيلولة لا نعرف النوم ولا نقيل إلا قرب أشجار الكالبتوس أو شجرة التين الكبيرة نربط الحبل في أقوى الأغصان حتى يتدلى من الأرض» أو لعبة العروس والعريس: «كنا نلعب عروس وعريس ونزين أطراف ديارنا بأحواش نبنيها ونضع فيها بعض الأواني والفرش الصغيرة ونختار عروسا… نعم كنا نختار أجمل الصبايا فتأتي طوعا وتفرح أو تغضب وتهرول باكية إلى أمها». ونجد عودة إلى زمن التلمذة والحراك الجماهيري انذاك تزامنا مع حرب الخليج وهو الحراك الذي أعطى حركة النهضة آنذاك ثقلا جماهيريا أفضى إلى بداية اعتقال عناصرها، كما نجد تذكرا لمراحل الاعتقال والسجن.. إنها كتابة الأسئلة المرة، كتابة تنبع من لحظات إنسانية فارقة: «ليس من السهل أن تجرّد من كل شيء… حتى من محفظتك وكتبك وبعض الأقلام… ليس من السّهل أن تخرج من السّجن فلا تعلم طريق العودة وتسأل أين يسكن اهلك؟ ليس من السّهل أن تسال كل المارة وأن يوصلك أحد تحت الطلب والرّجاء إلى بيتك. كنت أحمل حقيبة صغيرة فيها بعض ملابسي وفيها أيضا ساعة يدوية هي من المحجوزات لديهم».
يمزج العبيدي روايته بجزء من سيرته الذاتية جاعلا من الرواية قصة نضاله السياسي وتعذيبه في السجون من جهة، وقصة حبه وزواجه من جهة ثانية، ولكن حديث السجن كان الحديث الغالب حيث يتحول الكتاب إلى وثيقة تاريخية وشهادة عن عالم السجن وما فيه من تعذيب وممارسات لاإنسانية عارضا مواقف غريبة وموجعة… ففي السجن التونسي زمن بن علي تعذيب متعدد الأشكال واعتداء على الذات الإنسانية وحشرات مؤذية وزوار ليل …هي الكتابة التي توجع القلب…تبعث الكوابيس وتجعلك أكثر انزعاجا وتفيض ذاكرتك.
وأي ذاكرة؟
ذاكرة سنوات القمع… حكاية السجن المرير
حكاية القمع الذي يدمر الإنسان
لا تكفي المساحة لمزيد من الخوض في هذا الكتاب الذي يمثل شهادة خطيرة عن مرحلة من القمع وعن ممارسات متوحشة ارتكبها البعض، كما يمثل شهادة عن نشاط حركة النهضة زمن السرية وكيف تمكن عناصرها من تحدي التعذيب… فالكتاب يندرج ضمن السرد الواقعي التسجيلي الذي يعدم الخيال ويقول الحقيقة مثلما شاهدها وعاشها.
ناقد تونسي

m2pack.biz