سيوف تقطر حبرا
حين فاضل أبو تمام بين السيف والقلم لصالح السيف، كانت المناسبة انتصارا عسكريا في معركة عمورية، ولو كان المشهد معكوسا لربما تغيّر الموقف لصالح القلم، وتلك مسألة تقبل كثيرا من السجال، خصوصا في عصرنا الذي ترددت فيه عبارات تدين الإفراط في الأقوال لصالح الأفعال، وقد أطلقها رؤساء دول وكبار ساسة، إضافة إلى منابر إعلامية عديدة.
وكأن القول نقيض الفعل، والعلاقة بينهما ثنائية ضدية وليست جدلية، وربما كان السبب في ذلك التضخم الذي عانى منه الإعلام، وما لحق من هزائم وإحباطات بمن أفرطوا في توظيف اللغة وبلاغتها لتعويض ما يفتقر إليه الواقع من قوة، وهذا ما عبّر عنه البعض بمقولة منسوبة إلى القصيمي هي أن العرب المعاصرين ظاهرة صوتية، وهناك من ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك فاستدعوا وعيد الفرزدق لمربع، وبشروا مربع بطول العمر، ويبدو أن الأميّات التي يعاني منها المجتمع العربي بتفاوت، منها الأمية السياسية، رغم أن شعار التنمية السياسية في العالم العربي أصبح متكررا ولافتا وتكرس له مؤسسات، لكنه انتهى كما يقول الواقع إلى الأنيميا السياسية، بحيث اختلط الأمر لدى الكثيرين فلم يفرقوا بين التنظير الأيديولوجي بالمعنى السياسي والتنظير البيولوجي بالمعنى الطبي، وكالعادة اختلف العرب لغويا حول تعريب مصطلح الديمقراطية، واقترح بعضهم على المجمع اللغوي أن يقرر تعريب مصطلح الديمقراطية بحيث يصبح الدمقرة أو الدمكرة، وهل الديمقراطية ذكر أم انثى؟ ما يذكرنا باحتجاج بعض المحافظين على تسمية الأكاديمية جامعة، لأن الجامع كما رأوا لا يقبل التأنيث، وهناك مقالة نشرت في مجلة «العربي» للشاعر محمد علي شمس الدين بعنوان «عماء اللغة» أرى أنها بالغة الأهمية رغم قصرها واقتصارها على زاوية من المشهد التراجيكوميدي الذي نعيشه في عالمنا العربي، يتساءل شمس الدين بدءا هل الشعر أعمى والنثر مُبصر؟ ثم يستحضر مثالا من حوار دار بين مذيع وضيفه حول ديمقراطية الديكتاتورية وديكتاتورية الديمقراطية، فينتهي بعد ذلك إلى أن مثل هذه الحوارات تصيب المشاهد أو المستمع بالحيرة، لأنها تدور في العماء.
وتحرضنا مقالة شمس الدين على البحث عن نماذج من الكتابة والحوار في أيامنا يتجسد فيها العماء ويصاب فيها الشعر والنثر معا بفقدان البصر والبصيرة، لأن هناك عربا يرطنون بلغتهم وقد يتفوق عليهم مستشرقون من طراز أندريه مايكل في فهم وإتقان الأبجدية.
لقد كتب الكثير عن المثقف والسلطة، مما سمي تجاوزا وليس مجازا سلطة المثقف، لأنها متخيلة أو محلوم بها على طريقة التفكير الرغائبي، ففي غياب ثقافة فاعلة سيكون المثقف بالضرورة منفعلا أو مفعولا به، وهذا ما أدركته النظم السياسية على اختلاف هوياتها، بحيث ترسخ لديها تقليد لا يقبل المراجعة حول تسعيرة المثقف وقابليته الحربائية للتأقلم طلبا للنجاة، أو طمعا في مغنم، لهذا فهي بدءا من النظام الثيوقراطي حتى الأوتوقراطي وما بينهما لا تخشى المثقفين، وتسخر منهم، ولديها خبراء وفقهاء في سايكولوجيا المثقف أشبه بمقاولي الأنفار، تستعين بهم لتدجين المثقف ونزع دسمه إن كان فيه دسم، لهذا قال يوسف إدريس عبارته الشهيرة، وهي أن كل الحريات المتاحة في العالم العربي لا تكفي كاتبا واحدا، وأنا أضيف إلى ما قاله، إن كل هذه الحريات إن صح أن القليل من الحرية يقبل مثل هذا الجمع لا تكفي مقالة واحدة.
وهناك قارة شاسعة من المسكوت عنه في تضاريس الكتابة العربية، منها ما يتطلب فك الاشتباك بين الحزب والقبيلة والثقافة والإعلام والمعرفة الحقة والأميّة المقنعة المزخرفة، إضافة إلى تناسل الخطوط الحمر من بعضها، بحيث يصبح المسموح به هو المتواطأ عليه والناتئ فقط من جبل الجليد في محيط من الدم لا من الماء.
ولا أدري كيف غاب عنا أن هناك منجزات حضارية باهظة التكلفة، لا تقبل المحاكاة وحرق المراحل، ومنها الديمقراطية التي يراها المحرومون من نعمتها حجرا كريما أو أيقونة أو مصباح علاء الدين، رغم أن من عاشوها وصفوها بأنها أهون الشرور، حسب تعبير شهير لونستون تشرشل، وصناديقها التي رأى المحرومون منها أنها مدينة بيلارس الأسطورية، التي تشفي المريض وتحقق الوصال للعاشق وتحقق الخلود، ووصفها من صنعوها من خشب أو ورق بأنها أحيانا تشبه صندوق باندورا في الأسطورة الإغريقية، لكنها ليست ملآى بالشرور الأنثوية، كما رآها الإغريق، بل بالشرور الديكتاتورية كما حدث لطغاة ومستبدين في أوروبا القرن الماضي، الذين وثب بعضهم شاهرا سيفه من الصندوق.
وهناك حكاية يرويها مصطفى أمين عن الكاتب الساخر فكري أباظة يقول إنه كان كاتبا مقروءا إلى الحد الذي يتضاعف فيه توزيع الصحيفة بسبب مقالاته، وكان مثقفا ونزيها، ورفض المناصب، وحين رشح نفسه للبرلمان فاز عليه رجل أقل أهمية منه، بسبب الأمية السياسية في تلك المرحلة، والمثقف العربي رغم وفرة مزاعمه بمعرفة واقعه يتضح أنه آخر من يعلم حين يرتطم كوزه الفخاري بجرة السلطة الفولاذية.
٭ كاتب أردني
سيوف تقطر حبرا
خيري منصور
مقاربة موضوعية وعميقة تختزل ملابسات المشهد العربي منذ ذلك الحين حتى الآن وتلامس الخلل الحاصل في فهم جوهر المفاهيم المهمة في حياتنا والثقافة والمثقف والسياسة والديمقراطية وحركة المجتمع ودور المثقف ونظرة السلطة له . ما يقلق حقا أن مجتمعاتنا العربية باتت تعيش في منطقة غامقة تلاشت فيها الكثير من هذه المفاهيم الأمر الذي ساهم في إيجاد تحولات بنيوية خطيرة انعكست على واقع الثقافة والسلوك والمعرفة ومجمل المفاهيم الأخرى