شيء من اللغة.. المناصب بين التذكير والتأنيث
لفت نظري عنوان في مواقع التواصل يقول إن مدير الوحدة في مركز دراسات (..) قالت: نحن في خطر ولست متفائلة. فعجبت أن تكون: بداية العنوان لفظ مذكر (مدير)، وسياقه يتحدث عن مؤنث (قالت، متفائلة). لكنني تذكرت أن هناك مَن يذكّر هذه المناصب ولا يؤنثها، فأين الحقيقة اللغوية؟
فلنبدأ من ابن الأنباري (ت328 ه) (ملاحظة: (ت) يعني توفي لا رقم تليفون) في كتاب (المذكر والمؤنث). فهو يرى أن الألفاظ المختصة غالبا بالمذكر تعامل معاملة المذكر، حتى لو كان المقصود بها امرأة. قال: «ومما وصفوا به الأنثى ولم يُدخلوا فيه علامة التأنيث – لأن أكثر ما يوصف به المذكّر – قولهم: أمير بني فلان امرأة. وفلانة وصيّ فلان ووكيل فلان)
ثم استدرك بعد ذلك «وربما أدخلوا الهاء فقالوا أميرة، ووكيلة، ووصية»، ثم عاد فاستبعد بعض تلك الألفاظ لأن الأغلب أنها تكون للرجال دون النساء. ومضى يذكر خلافات الأقدمين في هذا الموضوع. فمرجع الأمر عندهم أن هناك مناصب خاصة للرجال، فعناوينها تلزم التذكير حتى لو شغلتها امرأة، فلا تقول: رئيسة، ولا وزيرة، ولا مديرة، ولا أستاذة… إلى آخر آخر آخر آخره من وظائف شغلتها النساء عبر التاريخ. فهل هذا صحيح؟ كلا. لقد قالوا (ملكة) مؤنث ملك، على الرغم من قلة النساء اللواتي كن ملكات قياسا بالرجال. فمادامت لفظة (ملك) قد تأنثت بوجود امرأة في ذلك المنصب فظهرت لفظة (ملكة) فلماذا لا نقول مديرة ما دامت امرأة قد شغلت المنصب، كما في المثال السابق: صرحت مديرة المؤسسة؟
قاعدة تذكير المنصب لأنه كان للذكر دون الأنثى (غالبا) تعكس تماما ما قرروه من تذكير عناوين المناصب. بمعنى أن لو كانت المرأة قد احتلت تلك المناصب في التواريخ القديمة لما كان لعناوين تلك المناصب أن تلزم التذكير. ولكانت المواضعة اللغوية قد ارتضت مصطلحات: الرئيسة، الزعيمة، الوزيرة، المديرة، الأستاذة.. إلى آخر آخر آخر أخره.
فهذه الألفاظ، إذن، صفات تكتسب التذكير والتأنيث ممن يشغلها، فإذا كان رجلا جاءت بلا علامة تأنيث، وإن شغلتها امرأة جاءت معها علامة التأنيث.
لذا ففي أيامنا هذه وقد احتلت المرأة تلك المناصب في كثير من دول العالم بما فيها دول عربية مسلمة، فلماذا يبقى اللفظ مجمّدا في صندوق المذكر؟
ومن طريف هذا الموضوع أن المنادين بالمساواة والمدافعين عن حقوق المرأة متعلقون بتذكير هذه الألفاظ، ربما من أجل أن يضفوا على أنفسهم صفة الحداثة تقليدا للغات الأوروبية. وهم واهمون هنا. خذ كلمة مدير في اللغة الإنكليزية ستراها (Manager) وإذا ذهبت إلى تأنيثها ستجد (Manageress). وقد تشترك اللفظة الأولى بينهما لأن المنصب عرف بهذا الاسم لا لأنه خاص بالمذكر. في الإنكليزية ألفاظ تستعمل للجنسين مثل (Child) تستخدم للطفل والطفلة و(Writer) للكاتب والكاتبة. فهل هذا يسوغ إلغاء لفظ (طفلة) و(كاتبة) من اللغة العربية بحجة التحديث اللغوي؟ وفي الفرنسية تفرقة واضحة بين التذكير والتأنيث في المناصب، لا تقتصر على تغيير في اللفظ، بل إلى أداة التعريف والتنكير نفسها حيث ترى (Le) للمذكر و(La) للمؤنث أو (Un) للمذكر و(Une) للمؤنث. وحتى إذا كانت الكلمة لا تذكر ولا تؤنث فقد حرصت الفرنسية على تحديد جنس الموصوف بها كما في (un journaliste) و (une journaliste). وإذا كان الاسم مذكرا لا مؤنثَ له فإن أداة التعريف ستبين أنه مذكر أم مؤنث، كما في (le bateau) و(la maison). بل إن الألمانية تضع ثلاث علامات: للمذكر والمؤنث والمحايد (Der, Das, die) ومن المناصب في الألمانية ما يذكر ويؤنث كلفظ الملك والملكة. وقد يبقى المنصب بلفظ واحد إلى أن تحتله امرأة فيضعون له، غالبا، لفظا آخر.
أما أن نرفض تأنيث لفظة الرئيس أو الوزير أو المدير أو الأستاذ أو السفير بحجة التحديث، أو متابعة فكرة التغليب الموروثة، فمما لا يتلاءم مع القوانين اللغوية ذاتها التي تصف المذكر بوصفٍ مذكر والأنثى بوصفٍ مؤنث، في المنصب وغير المنصب.
باحث أكاديمي عراقي – لندن
هادي حسن حمودي
أستاذ. هادي
هذه سلسلة رائعة.. نفعتنا وكشفت عن جمال اللغة العربية وكنا جميعا نتابعها بشغف في موقع القدس العربي الغراء وفي الفيسبوك نتناقلها بعض عن بعض.. لماذا انقطعت؟
بل حتى في الأنجليزية هناك من يوضح التذكير والتأنيث في بعض الكلمات التي تكون مشتركة، مثل : goat ، فنقول a she-goat للمعزة ، و a he-goat للعنز أو العتروس أو التيس..