شِعْريَة الأَلَم في تَجْرِبة سعيد الباز

شِعْريَة الأَلَم في تَجْرِبة سعيد الباز

شِعْريَة الأَلَم في تَجْرِبة سعيد الباز

سعيد الباز، شاعِر لا يَتَعَجَّل الشِّعر، يَكْتُب من دون اكْثراتٍ بالزمن، فالنص عنده، له شرطٌ آخر، هو أن يخرج من يَدِهِ، وكأنَّه لم يكْتَمِل، بالمعنى الذي يجعل من النُّقْصان هنا، شرطاً شعرياً، يفتح النص على مجهولاته، ويضعُه في شرطه الشِّعري الجماليّ. في ما قرأْتُه لسعيد من نصوص، وأنا أُتابِعُه عن كَثبٍ، مثل عدد من الشُّعراء المغاربة الذين أقرأُهُم باهتمام، وأُراقِبُ تجاربهم، الجُمْلَة تخرج من يَدِه مُرْتَعِشَةً، مليئَةً بالحذَرِ، لا يَقِينَ فيها، وكأنَّهُ لا يُريدُ الخلاصَ منها، أو وَضْعَها على الورق، بالصُّورة التي خَرَجَتْ بها من يَدِه. مثل الكأس التي يُمْسِكُها، بقدر ما يَشربُها بِشَغَفِ المُدْمِن على الشَّراب، بقدر ما لا يُريدُها أن تَنْتَهِيَ، أو تصيرَ كأْساً بعد عَيْنٍ. يكتُبُ سعيد الباز، ويترُك الباقِيَ للقارئ لِيُخَمِّنَهُ.
نصوصه مليئةٌ بالشُّقوق والتَّصَدُّعات. من يقرأُها دُفْعَةً واحدةً، سيجد نفسَه أمام صُوَرٍ، هي متفرقات، لا رابِط يَشُدُّها، أو يَلْحَم فراغاتِها. وهذا، في اعتقادي، ليس خَلَلاً في النَّصّ، بل خُدْعَةً تركيبيةً، أو بَصَرِيَةً، تحتاج لانتباه القارئ، ولمعرفته بما تحمله هذه النصوص، في طَيَّاتِها، من «عَبَثٍ»، هو جزء من معناها الذي لا يمكن الوُصول إليه، إلاَّ باستدراج هذه الصُّوَر لِما تُخْفِيه من قيمة جمالية، ليس باعتبارها صُوَراً، لا طائِلَ منها، بل باعتبارها، من ضروراتِ تَفْتِيت المعنى نفسه، وتَشْظِيَّتِه، كما لو أنَّ النص، ما يزال في حالةِ انْكِتابٍ، لا شيءَ فيه مُكْتَمِل ونهائيّ. وهذا، في اعتقادي، ما يُمَيِّز النصوص التي قرأْتُها لسعيد الباز، التي، في بعض تفاصيلها تَسْتَحْضِرُ تجربة شاعرٍ آخر، هو الشَّاعِر الراحل أحمد بركات، من دون الذَّوَبان فيها، بقدر ما تَسْتَبْطِنُها، وتبتكر، في سياق هذا الاستبطان، نموذجها الخاص.
ما العلاقة بين هذا وذاك؟
بركات، كتابتُهُ تحتفظ برعشاتِ جُمَلِها وصُوَّرِها، وهي، أيضاً، كتابة لا ترسُو على شكل واحد، ثابت، لأنَّه كان كثيرَ الانتقال بين النص الطويل، والنصوص القصيرة، أو الشَّديدة القِصَر، التي تأتي على شَكْل دفْقاتٍ، أو ومضات، ولُمَعٍ، لكنهَا تكون صاعِقَةً. وهي، أيضاً، مُتَشَظِّيَة، تلعبُ على هذا التَّفَتُّت التعبيري، الذي هو جزء من خصوصية بركات الشِّعرية. سعيد الباز، حين قرأتُه، عاد بي لتجربة بركات، في هذه الجُزئِياتِ، وفي هذا الانتقال، الذي هو عند سعيد، تعبير عن قَلَقٍ شعري، وعن رؤيةٍ للعالم، فيها تبدو الأشياء، غير مُسْتَقِرَّة على حالٍ، وأنَّ التَّرَنُّحَ، هو من صفاتِها التي تجعل الشَّاعِر لا يطمئن، ل«المعنى» نفسه، ويحرص على تفتيت النص، وتَشْظِيَتِه، ليفضح، من خلال شكله، ما يعيشُه العالم نفسه من تَشَظٍّ وانشطارٍ.
في هذا المفرق بالذَّات، بقدر ما تبدو المسافة بين الشَّاعريْن قريبة من بعضها، وهذا نوع من القَدَر الشِّعريّ الذِّي يزُجُ بشاعِرِ في براثِينِ شاعرٍ آخَر، من دون عِلْمِهما معاً، أو بنوعٍ من التَّواطُؤ الشِّعريّ الصَّامِتِ والخَلاَّق، بقدر ما تبدو، هذه المسافة، نائيَةً، مُتباعِدَةً، وكأنَّ كُلَّ واحد من هذيْن الشَّاعِرَيْن، جاء لِيُكْمِل ما لم يُنْهِه الآخر، أو ليحرص على توبيخ هذا العالم، بالوردة نفسِها، وبالإفراط في ذَمِّ الحياة، مُقابِلَ امْتِداحِ، ليس الموت، كما يُوهِمُنا عنوان الديوان الأول لسعيد الباز، بل الألم، الذي هو ترجمة أمينةٌ ل«العبث»، وفق رؤية الشَّاعِر.
شاعران يتقاطعان، أو يَتَصافَحَان، رغم أنَّهُما لا ينتميان ل«الجيل» نفسه، ولحظة التَّماسِّ في شعرهما، هي هذه الرَّعْشَة التي لا يمكن تفاديها، في تجربتَيْ الشَّاعريْن وبما يُمَيِّز كل واحدٍ منهما عن الآخر، في ما يتَمَاسَّان، أو يتقاطعان فيه بالتحديد.
الحوار الشِّعري، حين يكون مَبْنِياً على الإنصاتِ لجماليات الكتابة، وللقيمة الشِّعرية، في فرادتها، وفي دَمِها الشَّخصيّ، غالباً ما يُفْضِي إلى هذا النوع من اللِّقاء، وهو لِقاء النِّدّ للنّدّ، وليس لقاء الاستجابة العمياء لجماليات النص السابق، مهما يكن تأثيرُه، أو بما قد يبدو فيه من تجاوُب بين الصَّوْتَيْنِ.
فسعيد الباز، شاعِر يكتب بهدوء، وبِرَوِيَّةٍ، لا شيءَ يُجْبِرُه على الانتهاء من النَّصّ، شكل الجملة، وبناء الصُّوَر عنده، وكذلك الإيقاعات، تفضح هذا البُطْء المقصود، الذي تفرضه طبيعة الشَّاعر نفسه، وطبيعة رؤيته التي تميل للنَّصّ الثَمِل، الذي هو نَصّ لا يفضح معناه، بل يتركُه ثاوِياً في هذا التَّشَظِّي، أو في طبيعة الرؤية العبثية التي ترى في الألم شراباً آخَرَ، يُضاهي الشَّرابَ الذي قد يكون عند الكثيرين، بديلاً للألم.
كاتب مغربي
صلاح بوسريف

m2pack.biz