صور رتيبة في صندوق خشبيّ عتيق
يدخل المحاضِر ويسلّم على الجميع كعادته بابتسامة تملأها المجاملة والكياسة. يبدأ بإلقاء المحاضرة باللغة الانكليزية الرسمية، تتخللها جمل عامية غير مفهومة. كدأبه يبدو بمظهره الغريب، يرتدي قميصاً مزركشاً بألوان برّاقة، وينتعل حذاء من قماش برأس نافر ترتسم فيه أصابع قدميه، ليعكس مظهره في أنظارنا إحدى شخصيات عصر النهضة بصورة وروح حقيقيتيين. كان يبدو عليه التباهي وخصوصاً في ردود أفعاله تجاهنا. يرمق بقسوة إن همس أحدهم وهو يتكلّم. كان يقرأ المسرحية بحيوية، ليبدو لنا كأن أحداثها كانت قبل فترة زمنية قريبة. كان ينكّس رأسه ويبتعد بخطى رشيقة وسريعة كأنّه يفتعل حدثا طارئا. لذلك كنتُ ألهث أثناء تقطيعه للنصّ، كأنّني أقفز أو أنفد من خطر قريب.
أحياناً يتكلّم بصوت يعلوه إعياء ثقيل، كأنّ مذاقاً مرّا علق في لعابه، فتجتاح حلقي موجة غثيان مقيتة، ويصوغ في داخلي لغة جديدة يعلو غبار السنين. كان يرسم الأحداث والصور من دفتي الكتاب، كما لو أنّها أمام عينيّ. لذلك كنت أتتبّع انفعالاته الجسدية أثناء القراءة من دون أن أشيح ناظري عنه. كنت أقيس في مخيلتي كلّ التعابير والملامح التي يرسمها في ذهني مع أحداث النصّ، كما لو أنّها صور متحرّكة، لتماثيل مدثّرة بالغبار، تنهض من جديد وسط غبار يعمّ المكان. كان يزمّ شفتيه الرقيقتين والناتئتين، لينكمش معه شاربه الكثّ كأنّه يسقط في الخواء. لذلك كنتُ أخوض الأحداث الذهنية أثناء قراءته وحركاته الجسدية.
ذات يوم حدث مسّ كهربائي في غرفتنا. دخل الفنيّ بمظهر أنيق غير متوقع بزي عامل صيانة. قامت كلٌّ منّا بترتيب المجعّد من ملابسنا. كان شعره أملس وممشّطا إلى الخلف، يرتدي سترة قرمزية ضيّقة توشيها زخارف ناعمة من الأطراف. علاوة على ذلك، كان ذا عضلات مفتولة. حدثت همسات وإشارات سرّية بيننا لحظة، تعقيبا على مظهره الأنيق. اندفعت صديقتي نحوه وقدّمت له كأساً من الماء، بعد أن ثبتت شعرها بدبوس معدني. سأل باشمئزاز وقبل أن يشرب، ما إذا كانت الكأس نظيفة، فانتابني إحساس بالغضب حيال ما حدث. تدخلت الأخرى وسألته بإيماءة من رأسها، لشرب فنجان قهوة، متعمّدة إظهار معصمها وأساورها المصنوعة من الأحجار الزائفة، وأظفارها المطلية بشكل رديء. في غمار ما كان يجري، أتت الثالثة وسألته إن كان عمله سيستغرق وقتاً طويلاً، قاصدةً فتح محادثة معه. التقت نظراتها الجانبية بعينيه، فأشاح بوقار مصطنع، وردّ بالنفي المغرور. كان ذلك يثير حفيظتي. عند انتهائه من عمله، شكرته مخاطبة اياه بكلمة “عمو” على رغم صغر سنه. في غمار تصرفاته النزقة ومحيّاه المتعالي، كزّ أسنانه بغضب ورحل من دون أن يردّ علي، فخيّم علينا صمت ثقيل، كان ردا على تصرفات صديقاتي اللاتي كنَّ يتزاحمن كي يلفتن انتباهه من دون جدوى.
كنت أسكن مع ثلاث صديقات في المدينة الجامعية، في غرفة تبدو كصندوق خشبي عتيق؛ تعشش فيها ذكريات أسماء وتواريخ، ويتشابك فيها الوقت. أتذكّر جيداً ذلك الشاب النحيل الذي كان يجلس طوال الوقت على حافة شبّاكه المقابل لغرفتنا، كان معروفا بفضوله، يراقب المارة بعينين يقِظتين ومفتوحتين كعيني سمكة ميتة، فيجري محادثة قصيرة من غرفته، مع كلّ من يمرّ من الشارع، تبدأ بتصفيرة قوية. كنتُ أتجنّب المرور من ذلك الشارع لأتفادى أي محادثة. كان ثمة شاب آخر يغني في هدأة الليل أغاني محمد شيخو، فينبعث صوت في أسماعنا كنعومة الملائكة.
أحياناً كثيرة كنتُ أتأمل من بعيد غرف المدينة الجامعية المصفوفة بشكل رتيب، تشبه خلايا النحل المسدّسة، في كل غرفة كانت تظهر من الشباك ملابس الطلبة وحركاتهم الجسدية وأصواتهم المتعالية، كما لو أنّها بانوراما، لتجتمع تلك المناظر الممتلئة بزخم الحياة في أنظاري في شكل مربّع موحد، كما لو أنّها صورة واحدة ملونة.