عالم الطفولة والبحث عن التآلف الكوني
القاهرة «القدس العربي» محمد عبد الرحيم: بداية من دراجة مارسيل دوشامب، وبث الحركة الفعلية في الشكل المجسم تواصلت التجارب والتيارات الفنية التي أولت اهتماماً كبيراً لفعل الحركة ذاته، وخلق مجالات وموضوعات تتباين والتشكيل التقليدي أو الكلاسيكي، وصولاً إلى إشراك المتلقي في العمل الفني، الذي لا يكتمل إلا بهذه المشاركة الحركية بدورها، هنا يصبح المتلقي أحد عناصر العمل الفني وأحد أسس مكوناته. وربما يبتعد الفن المصري قليلاً عن أعمال متميزة أو لافتة في مجال الفن الحركي، إلا أن الفنانة نيفين فرغلي، من خلال معرضها المعنون ب»الحياة حركة» المقام حالياً في غاليري (أوبنتو) في القاهرة حاولت أن تضيف إلى التجربة الفنية المصرية في هذا الفن. وعبر خامة الحديد، وهي خامة صعبة التشكيل والتطويع، تقوم فرغلي بخلق عالمها من المجسمات، تجريدية كانت أو تشخيصية، ومعظمها يحتفي بالحركة، ويتفاعل وجسد المتلقي الذي يصبح هو والعمل الفني كلا لا يتجزأ.
الصوت واللون والحركة
معظم الأعمال الفنية في المعرض تتخذ من التآلفات اللونية والصوتية أساساً لتكوينها، اللون هنا يتم من خلال مصادر إضاءة تدخل ضمن الشكل، وعن طريق المتلقي بأن يحرك الشكل يدوياً، كذلك قوم بالضغط بالقدم أشبه بدواسات آلة البيانو حتى تتم إضاءة التكوين تباعاً وعن طريق الحركة وتفاعل قطع الحديد المعلّقة، يتم توالد الأصوات وتناغمها، هذه الحالة التفاعلية تماماً التي تشبه في بدايتها تجربة اللعب، وهي أقصى ما يمكن أن يحققه الفن، تتحول إلى تجربة كاملة من المعايشة الحقيقية مع العمل الفني وإعادة إنتاجه وفق ما انتوته صاحبة العمل. الحديث هنا عن العمل التشكيلي المجرّد، بينما هناك العديد من الأعمال الأخرى يختص بها المتلقي المصري، وهي ألعاب الطفولة التي توحي بالحركة من خلال وظيفتها، كالآراجيح الفردية والجماعية، وهي المنتشرة في الأحياء الشعبية والموالد.
الطقس الشعبي
ومنه نصبح داخل مدار الفن الأقرب للمزاج الشعبي المصري، وألعاب الطفولة بوجه خاص، حالة من البساطة والدهشة، دون نسيان طبيعة المادة التي تشكل منها العمل، وهي خامة الحديد، والمفارقة بين قسوة المادة وبساطة التشكيل تخلق حالة جمالية بدورها يستشعرها المتلقي. هذه الألعاب تمتد أيضاً إلى المجسمات الصامتة، فهي بدورها في حالة حركة، كالطفلة التي تمسك دميتها، أو الطفلة التي تبدو وهي ترقص، أو تلعب لعبة الحجلة. لم تكتف نيفين فرغلي بعالم المجردات والتشخيص، بل أضافت عالم الطيور والحيوان، فالباب الخارجي للمعرض تتصدره بقرة تقارب الحجم الطبيعي، وهي أيضاً في حالة حركة، كذلك عالم الطيور، كالنعام، والعصافير.
دور المتلقي
كما أسلفنا فالمتلقي يحتل دوراً أساسياً في اكتمال العمل الفني، فلم يعد يكتفي بالدور السلبي في عملية التلقي، وبالتالي لم يعد الفنان يفرض سلطته الكاملة على العمل، هناك مساحة من الاختيار في التفاعل مع هذا العمل أو ذاك، والمشاركة في اكتمال الشكل الفني. الأمر الآخر من حالة التفاعل هذه يتجلى في الذاكرة البصرية للمتلقي، فمعظم الأشكال لها في مخيلته رصيد، رآه أو تفاعل معه في حدود الواقع، ومن هنا تنشأ جماليات العمل الفني، اللغة المشتركة هنا تبدأ من خلال وعي المتلقي في البداية، وهو دائماً في حالة مقارنة ما بين وعيه والعمل الفني الذي يشترك ويتفاعل معه.
الروح ما بعد الحداثية
ومن السلطة المنقوصة لصاحبة العمل الفني، والاعتماد على المتلقي في إتمام حياة العمل نفسه، تبدو تداعيات ما بعد الحداثة، سواء في الرؤية الفنية أو كيفية تنفيذ هذه الأعمال. كتوظيف المفاهيم العلمية في الفن، والاعتماد على معادلات الحركة واشتراك أو تشابه العمل مع الآلة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تبدو حالة التآلف والتجاور ما بين عوالم المجردات والتشخيص، دون افتعال حالة من التعالي، أو الفهم اليقيني الأمر أشبه ببحث علمي عن حالة من حالات التآلف والتوازن الكوني فقط حالة استعراض ومقارنة دائمة ما بين أشكال تبدو وقائعية، وأخرى جديدة ليس لها تصورات سابقة في الوعي البصري للمتلقي، هو فقط أمامها كتجربة فنية، وله قدر من الحرية في اكتشافها والتفاعل معها.