«عبور»… معرض في دمشق يستعيد الأمكنة والذكريات

«عبور»… معرض في دمشق يستعيد الأمكنة والذكريات

«عبور»… معرض في دمشق يستعيد الأمكنة والذكريات

دمشق «القدس العربي» زينة شهلا: في الأمكنة التي نعيش فيها تفاصيل حياتنا الأولى سرٌ خاص، قد لا يتبدى لنا واضحاً إلا حينما نفترق عن تلك الأمكنة، طوعاً أو قسراً، لنغدو مسكونين بحنين قد يتفجر عندما نسمع صوتاً ما، أو نشتم رائحة تعيد إلينا ذكريات تبقى قابعة في ذواتنا رافضة أن تبارحها.
وفي محاولة لاستعادة تلك التفاصيل والذاكرة، افتتحت الفنانة السورية زينة سلامة الأسبوع الفائت معرضها الفردي الأول في غاليري قزح في دمشق تحت اسم «عبور».
«عبور هي الإشارة التي أحاول من خلالها استعادة الأمكنة التي عبرتها بدون أن أجتازها، وفارقتها بدون أن أفترق عنها. من خلال هذه التجربة البصرية أحاول إعادة الاعتبار للتفاصيل الحميمة كالخطوط والشوارع والروائح التي تثير في أرواحنا تواريخ كاملة وذكريات تغلغلت في كامل كياننا» تقول عبارات المعرض الافتتاحية بقلم الفنان إسماعيل الرفاعي، وتضيف متسائلة: «هل نحن نعبر حقاً أم أن البوصلة تشير دائماً إلى عتبة بيتنا مهما تناءت بنا الدروب؟ نحن نعبر دائماً من أنفسنا إلى أنفسنا، ومن البلاد الغريبة إلى حارتنا الأولى، ومن الضجيج كله إلى سكينتنا الأولى، ومن وحدتنا المفرطة إلى تلك الأمكنة المزدحمة بكم، والتي تتبدى الآن وكأنها استعادة لحياة لم نبرحها قط».
الفنانة التي عاشت طفولتها في حلب قبل أن تنتقل لدمشق للدراسة، ومن ثم للإمارات العربية المتحدة للعمل، تشعر اليوم بالحنين للأماكن التي شهدت أولى خطواتها واحتضنت أول ذكرياتها، ولعل ذلك ما دفعها لإطلاق اسم «عبور» على هذا المعرض، الذي يطرح تساؤلات عن فكرة العبور بالذاكرة وارتباطها بالحواس واستعادتها لتفاصيل دقيقة لا يمكن لها أن تغيب. ووفق تصريحات سلامة – الحائزة إجازة في الفنون الجميلة في جامعة دمشق- ل«القدس العربي»، فإن هذا المعرض هو الجزء الأول من معارض أخرى لاحقة ستتمحور حول فكرة العبور النفسي والروحي والجسدي والمادي، لتكون خلاصة خبرة أكثر من عشر سنوات في تدريس تقنيات الحفر في كل من لبنان والإمارات، وأيضاً المشاركة والإشراف على العديد من المعارض الجماعية وورشات العمل في سوريا ولبنان ودبي وباريس.
ذاكرة ونقاط علّام
ويبدو أن اختيار صالة عرض «قزح» لمعرض «عبور» لم يكن عبثياً، فتصميم المكان يتيح للزوار الانتقال من حالة إلى أخرى، ومن مكان لآخر، ليعيشوا بأنفسهم فكرة العبور، بدون الاكتفاء بأن يكونوا مجرد مشاهدين للوحات وغير متفاعلين مع الحدث.
بداية، يدخل زائر المعرض أول غرفة، التي تحتوي مجموعة من أربع لوحات بعنوان «ليل وطرقات» مشغولة بتقنية الطباعة السطحية، وتتحدث عنها سلامة بالقول: «عندما أدركت لأول مرة بأنني بدأت أنسى الطرقات التي كنت أسلكها من منزلنا لأماكن معينة شعرت بالخوف، ورحت أوثق أهم مسارات حفظتها في طفولتي، وأبرز نقاط العلّام التي كنت أمر بها، كبائع حلوى المشبك ومحل الفلافل ودكان عمي، ونتج عن كل ذلك هذه اللوحات الأربع، التي يظهر في كل منها وجه يعبر عني وعن الذاكرة التي أحاول أن أستحضرها، ونجوم تمثل نقاط العلام التي ساعدتني على ذلك الاستحضار».
وإلى جانب مجموعة «ليل وطرقات» عُلقت لوحات أخرى تحكي عن خبرات تعتبر سلامة بأنها ذات معنى مميز لأهالي مدينة حلب بشكل خاص، ومنها «طقطقة فستق» التي تحاكي أصوات طقطقة نبات الفستق الحلبي عندما يكون القمر بدراً في شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب، و«بيت ستي» حيث تعود الذاكرة بالفنانة إلى منزل جدتها في حلب كلما اشتمت رائحة قشور البرتقال المحروقة، حيث اعتادت الجدة تسخين تلك القشور على المدفأة في الشتاء.
كمرحلة ثانية ينتقل الزائر عبر باب صغير إلى غرفة تحوي عملاً تركيبياً حمل اسم «بيتنا»، وهو عبارة عن قطع ورقية مخيطة إلى بعضها بعضا على شكل ممرات تمثل منزل سلامة بترتيب غرفه نفسه، ليعطي الزائر عندما يمر بينها شعوراً بالعبور من مكان لآخر، أو بالأحرى من غرفة لأخرى، وصولاً لمخرج المنزل. واستخدمت الفنانة ذات التقنية «الطباعة السطحية» على تلك الأوراق، لإظهار مسقط كامل للمنزل، إضافة لأشكال غرف النوم والجلوس وأيضاً مدخل البيت.
ذكريات من الشرفة
وعلى جدران الغرفة الثالثة التي يعبر إليها الزوار وفق الطريق المرسوم لهم عُرضت مجموعة من الأعمال ذات القياس الصغير، لكن المليئة بالكثير من التفاصيل، والتي تتحدث عن ذكريات عديدة مرتبطة بالشرفة الصغيرة في منزل سلامة، لتحمل عنوان «بلكون أوضتنا الصغير».
ست عشرة لوحة حفرت بطريقة الطباعة المعدنية، باستخدام إبرة وحمض وألفونة ومكبر لمساعدة من يرغب في رؤية المزيد من التفاصيل، وعرض فيديو مدته حوالي خمس دقائق ونصف الدقيقة تترافق فيه صور اللوحات مع صوت الفنانة، كافية لتنقل الزائر إلى تلك الغرفة الصغيرة، ليعبق أنفه برائحة القهوة، ويسمع صوت عصافير الحب وهي تحط على الشرفة وتطير منها بدون كلل أو تعب، ويرى الوردة الصفراء التي زرعتها الأم في أصيص صغير، لتفتح أوراقها كل مساء.
وتوضح سلامة ل«القدس العربي» سبب اختيار هذا الاسم للغرفة الأخيرة: «رغبت بالحديث عن كل ما كان يحدث في شرفة غرفتنا أنا وأخوتي، وهي الشرفة الأصغر في المنزل الذي يحتوي أخرى أكبر حجماً لكنها مخصصة للضيوف. أما شرفتنا فكانت مليئة بالحكايا التي أذكرها من جلساتنا أنا وأخوتي، والتي استوحيت منها أسماء اللوحات مثل سما ومربى الورد وعصافير الحب وفستق حلب وترينات محطة بغداد».
فمربى الورد مرتبط بالأطباق الكبيرة المخصصة لتجفيف كافة أنواع الفواكه المتاحة، وفستق حلب الذي اشتهرت به المدينة تبدو آثار بقاياه على الشرفة المطلة على محطة قطارات بغداد، وفناجين القهوة تستعد لقراءة الطالع في قعرها بعد الانتهاء من احتسائها.
استعادات أجادتها الفنانة وصاغتها مخيلتها بدفءٍ نقلَ زائري معرض «عبور» في متاهات الذاكرة إلى محطات مرتبطة بحواس مختلفة، ولحظات لا ضير من استعادة ألقها من جديد.
«عبور»… معرض في دمشق يستعيد الأمكنة والذكريات

m2pack.biz