عصيان المعنى وارتهان الكتابة الجديدة
بداية أشير إلى أن ما أعنيه بالكتابة الجديدة هو تلك الكتابة التي لا تعترف بالحدود بين الأجناس الأدبية المستقرة وفق نُظمها وأعرافها التي أنتجتها وأفرزتها، بما في ذلك تلك الكتابات التي تقدّم أوراق اعتماد إلى ديوان هذا الجنس أو غيره، اعتقاداً منها أن في ذلك شرعيَّة وهروباً من وصمة عار ال “بدون”.
وهذه الكتابة، كما أرى، وصلت إلى ما تمكن دعوته “أزمة عصيان المعنى” على صعيدي سؤال الوجود وسؤال الأدب ومبعث هذا العصيان، كما أرى أيضاً، يعود إلى التدرجات الشديدة التباين في الطيف الذي تشغله أولاً، وإلى الفهم المُلتبس لمعنى العمل الأدبي كما يُنتج ويتداول ثانياً.
لقد بات الحديث عن اللامعنى، كسمة تخصُّ نصَّ الكتابة الجديدة، شيئاً أقرب إلى المسلّمة. بل إن بعض المنظرين لها، بتسميات تجنيسيه، يثمِّنون هذا “اللامعنى” ويدعون إليه. غير أن “كتابة اللامعنى” أو قصد “اللامعنى في الكتابة” الذي يتراءى للبعض أنه قيمة جوهريّة في نص الكتابة الجديدة، ليس في الحقيقة، إذا أُمعن في الظاهرة، سوى انعكاس لسوء فهم يطال معنى العمل الأدبي، أو هو من ناحيّة أخرى شكل من المحاصرة لهذا المعنى بنفعيَّة لا تنتمي إلى دائرة تحققه. ذلك أنّ نفعيّة كهذه، في حال وجودها، تنتمي إلى حقل القصد الذي يخصّ القارئ.
من هنا تبدأ، أو تستحيل، جماهيرية، أو شعبيّة، حالة أدبيّة دون غيرها، ذلك أن القارئ يبحث دوماً عن متعته التي تتحقق بتلبية قصده ومبتغاه، والتي يجدها، على الأغلب، في الأعمال الأدبيّة التي تتكيّف مع الكون فضاء لاشتغاله، بمعزل عن سويّة هذا الاشتغال ونوعيته.
فالقارئ يأخذ العمل الأدبي على أنه حقل لمعنى، أو لعدد من المعاني، انطلاقاً مما اعتاد أن يوفره له المعنى من يقينيّة تجمع الذوات وتوحدها، ولهذا تنجح على المستوى الجماهيري، أو الشعبي، تلك الأعمال التي تحقّق فصلاً واضحاً ونهائياً بين معنى العمل الأدبي كتجربة واشتغال، وبينه كرسالة موجَّهة إلى قارئ، حينما تأخذ بالثاني ولا تعير الأول أدنى اهتمام، فيما تكون هذه الأعمال قليلة القيمة في اشتغال الدراسات النقديّة التي ترى أن المعنى موضوع مركّب يتمثّل في تسلسل، أو تجاور، نتائج مجموعة عديدة من التجارب، تشكّلُ في ترابطها، أو في تجادلها، حقل قيمٍ يُقدّم لا محدوديّة في التأويل، وفي أشكال إعادة الإنتاج وآلياته.
وفي حالة عجز القارئ عن تحقيق مُبتغاه والوصول إلى قصده الذي يتمثّلُ في كشف قصد المؤلف والاستيلاء على زمن التأليف، أو الشراكة به على أقل تقدير، فإنه يتوقف عن التواصل/القراءة متهماً النصّ بالغموض، وأحياناً بالسطحيّة والخواء. وفي أغلب الأحيان يكون حكم القيمة هذا، المتمثل بالامتناع والصَّد، نتيجة الغياب غير المُدْرَك للأعراف الثقافيّة المشتركة بين نص يحاول اختراق أعراف حاضرة، وقارئ يريد تمثّله بذات الأعراف المخترقة، وعند هذه الحالة ما من فرق كبير بين قارئ عادي وقارئ ناقد.
أمام حالة العجز السابقة يحضر سؤال يخصّ نصّ الكتابة الجديدة وبالتحديد مدى ملاءة هذا النص وغناه بعوامل التحفيز التي تجتذبُ القارئ بعيداً من أعرافه ومنظومته، وتضعه في حالة من الاستجابة والتفاعل، تجعلانه يتعاطى مع النصّ كمساحة للحوار والجدل، وليس كصندوق للمعاني.
وبالنظر إلى الكم الأعظم مما يندرج في إطار الكتابة الجديدة، فإن خيبة أمل لا بد من أن تحدث بخصوص تلك الملاءة، وقبلها بخصوص الجدّة ذاتها، فهذا الكم يقدّم جدّة شكلانيّة تفضح مدى الفقر الإبداعي، حينما تتوقف عند حدود التوزع الطوبوغرافي للجمل والكلمات وعلامات الترقيم، وأما الكمّ القليل، الصادم والمربك، فإنه، ولعلّة خلقيّة تتمثّل في الطغيان النصّي للذات، يطيحُ بأعراف القارئ دفعة واحدة، ولا يترك أيّ مساحة للتفاوض والحوار. ولأن هذا الكمّ القليل مُعتدى عليه دوماً، بالتطفل تارة، وبالممانعة تارة أخرى، فلم تتسنَّ له الفرصة للاشتغال على نقائه الذي يجعل منه عُرفاً يشترك في تشكيل ما وراء النصّ، وتالياً أساساً في منظومة القارئ الما قبل نصيّة. وعند هذه النقطة لا بدَّ من الإشارة إلى مفارقة قلَّما أُخذت بعين الاعتبار، وقلّما نُظر إليها على أنها أزمة عُرفيَّة بامتياز، إذ إنها تمثل أوضح الإشارات على أن المهم ليس ما يطاح به من أعراف، بل ما يُؤصل من أعراف جديدة. والمفارقة هنا تتجلى في سيطرة الكتابة الجديدة على المستوى الإنتاجي، فيما المستوى الرمزي أو العرفي يخلو منها تماماً. وليس الأمر هنا بعيداً من الارتهان للمعنى، بالضديّة الصادمة والجارحة، أو بتلك التنافسيَّة الهزيلة والخاسرة إذ إن نص الكتابة الجديدة، الذي يتنقّل بين الحدود، ويراوغ في الانتماء، ليس في مستوياته عالية القيمة الإبداعية فحسب، بل وفي المستويات الدنيا منه، يناسب تماماً افتراضاً، أو توهماً، خارج نصّ يشكل مناخاً مناسباً للتسويق والاحتكاك والجدل. ولأن الأمر مجرّد توهم وافتراض، فالحقيقة تشير إلى بقاء هذا النص خارج أنساق المعاني لافتقاره إلى المشترك العرفي الفعلي الذي يجعل من تجربة القراءة معنى بحدّ ذاتها، أي إمكانيّة لإعادة التوازن المختل بين العرف كقيمة، والحياة، أو الواقع، كمعنى.
إن نصّ الكتابة الجديدة صامت لا يقول من وجهة نظر القارئ، لكنه، من جهته كنصّ، يفترض بأنه يعرض أفعال القول عبر اختبارها، وهو لذلك يبدو قليل الاطمئنان تجاه اللغة ككفاية للعرض، وبالتالي يطمئنها ليفعل بها ما يجعل منها قادرة على تلك الكفاية بتحويله إياها إلى شأن شخصيّ محض، وليس بنيّة رمزية عامّة.
هنا لا بدّ من العودة إلى ما افترضناه سمة خلقيَّة لنصّ الكتابة الجديدة، وأثر هذه السمة على عيشه لنوعٍ من السريَّة، التي تظهره دوماً كتمثيل لأقليّة ثقافيَّة. إن الطغيان النصي للذات كشكل للخروج على الطغيان النصي للعرف، يضع الكتابة الجديدة في مواجهة فراغ يخلفه وهمها بوجود الفاعل الفردي كمتلقٍ وليس كمنتج، بينما يؤكد الواقع بأن فاعلاً كهذا لا يوجد إلا على مستوى النص، أي إنه بنيّة هذا النص وليس قارئه. وهذا ما يدفع على العودة إلى القول إن دخول عرف جديد إلى منظومة رمزيّة سائدة لا يتعلق في أحيان كثيرة بالعرف ذاته، أي إن المقدرة على الدخول لا تمثل حكم قيمة يخصّ العُرف، بل لا يشكل ذلك أكثر من إشارة، أو عرض، على اضطراب تعانيه المنظومة، وهذا الاضطراب يعكس الحس بغياب التوافق بين المعاني المستقرّة والقيم التي قد تنتجها تلك المعاني، وبالتالي اهتزاز العلاقة بين المعاني والأفكار، أو بينها وبين القيم، الأمر الذي يهدّد ضمان التماسك الثقافي، أو الاستمرارية الثقافية على مستوى الفرد، وعلى مستوى الجماعة. وتالياً فالأعراف التي تقبل بها المنظومة الرمزية السائدة هي تلك التي تساعدها في إعادة اللحمة إلى أجزائها الآخذة بالانشطار، أي تلك التي تساهم في إعادة خلق التوافق بين المعاني ومراجعتها الجديدة، أو بين اللغة والواقع المتجدّد والمتحرك.
وهنا يستجدُّ السؤال إن كانت الكتابة الجديدة قد سبقت نفسها حقاً، وسبقت قارئها في الوقت ذاته، إذ جعلت من ذاتها مرجعاً لمعناها وجعلت من توافقها النصي الخاص تعويضاً عما تتطلبه الرمزية السائدة التي لم تصل بعد إلى تحسس ما يعتمل في الواقع من انقسامات تهدد التماسك فعلاً.
والسؤال السابق يعيدنا، كما أرى، إلى مسألتي السيطرة الإنتاجيّة، والفاعل الفردي، كتحقق بخصوص الأولى، وأمل، أو رغبة، بخصوص الثانية.
إن السيطرة الإنتاجية تؤكد حضوراً كميّاً يكفي للإقرار بالوجود الحقيقي لظاهرة، لكنه بالتأكيد غير كافٍ لإثبات ضرورتها، أي اعتبارها حاجة لا بدّ منها، وهذا ما لا يتأكد إلا بمقدار التحوّل إلى قيمة استعماليّة، وحاجة استهلاكيّة، وبالتالي بمقدار ما تؤسس وتعزّز أخلاقاً استهلاكيّة خاصة بها وهذا ما لم توفره الكتابة الجديدة لنفسها إلى الآن وبقيت عرضاً يفوق الطلب بأضعاف.
نعم الكتابة الجديدة، بالقياس إلى السلعة، هي غير عابئة بأخلاق الاستهلاك السائدة، وغير معنية بقيم الاستعمال، لما تنطوي عليه هذه القيم من إضمار لمعانٍ سائدة.
الكتابة الجديدة ضد المعنى، أو هي عصيّة على إكساب المعنى وتقديمه. مقولة يتم تداولها على مختلف المستويات القرائية، بعضها من موقع الدفاع، والبعض من موقع الاتهام. غير أن الكتابة الجديدة، وقد حسمت أمر اختلافها، بانحيازها شبه الكامل إلى حقل القيم والأفكار، أي إلى حقل المتغيّر والمتبدل، حيث أعمق الدوافع الفرديّة وجوداً، فإنها غادرت ساحة المشترك والمتفّق عليه، إذ تستوطن المسلّمات والحقائق العلميّة. وتكون بذلك قد أقامت حاجزاً أمام امتحان القارئ السائد لخبرته، لأنه ما من تقاطعات بين خبرتي القارئ والنص، أو بين المطمئن والقلق. وهنا يحضر الفاعل الفردي بكل جلاء، لكنّه يحضر كنص يستمدّ معناه من الانتصار لحقل القيم، على حساب حقل المعنى، وهذا ما يجعل من هذا النص، وتالياً من هذه الكتابة، ارتهاناً حقيقياً للمعنى، أو للمعاني، المولود، أو المولودة، بطريقة معكوسة تماماً. إذ تصبح الأفكار والقيم، التي يولدها المعنى عادة، هي التي تولده وتزحزحه عن ثباته، وقد يصل الأمر إلى استبداله وإقصائه في حال عصيانه على الفكرة أو القيمة التي نأت عنه لدرجة أنها باتت خارج طيف الدلالات الممكنة. وهذا ما يتطابق تماماً، مع التصوّر النظري المحض للفاعل الفردي إزاء واقع متعيّن ومحدّد، حتى لتمكن الجرأة على القول إن نص الكتابة الجديدة هو صورة ذلك الفاعل الفردي الغائب، أو هو وجوده الممكن التحقق حتى هذه اللحظة.