عن الأخطاء في الإبداع
منذ أيام، وفي أي وقت للفراغ أجده، أحاول قراءة واحدة من الروايات المترجمة للعربية حديثا، وكانت قد اشتهرت منذ فترة، بعد ترشيحها القوي لواحدة من الجوائز الغربية، ومن ثم انتشرت في جميع أنحاء العالم وبكل اللغات، ووصلت إلينا عربيا.
الرواية كبيرة الحجم إلى حد ما، وتستوحي من التاريخ والأسطورة، وهي كتابة تناسب مزاجي الشخصي، وتجد قراء كثيرين، وأيضا قد يعتبرها البعض كتابة مملة، ويفضلون عليها تلك الكتابات الخفيفة ذات الاتجاه المعاصر، والمسألة اختلاف في الأذواق والأمزجة كما نعلم. على أن القارئ المتعصب لنوع معين من الكتابة، يرى دائما أنه النوع الأمثل وعلى الآخرين الموافقة على ذلك حتى لو كانت وجهة النظر مختلفة، وقد جربت غيظي الشديد، حين أجد قارئا يتحدث عن رواية: الأشياء تتداعى للعظيم تشينوا تشيبي، أو رواية: المخطوط القرمزي للإسباني أنطونيو غالا، مثلا، باستخفاف، وآراء أعتبرها غير منصفة، برغم المجهود الكبير الذي بذله الكاتبان، وذلك الكم الهائل من المعرفة الذي سكب في عدد من الصفحات، تعادل خزانة للكتب، وقس على ذلك، كثيرا من الأعمال الأخرى لكتاب آخرين. المسألة حقيقة ليست وقاحة بقدر ما هي اختلاف في الرأي، وميل معين لنوع من الكتابة من دون سواه.
لا أريد أن أتحدث عن جو الرواية المترجمة التي قلت أنني غارق فيها، وربما أعود إليه لاحقا، لكن أود الحديث هنا عما أزعجني في تلك الرواية، وكان من الواضح أنها مختلفة ودسمة، وتحمل معرفة أخرى جديدة علي.
لقد فوجئت حقيقة بآلاف الأخطاء المتنوعة، من إملائية وطباعية ونحوية، وتحريرية، في صياغة الجمل، ولدرجة أنه يصبح من المستحيل إكمال كتاب كهذا برغم المتعة التي بداخله، وبرغم أن الترجمة تبدو جيدة، وتحمل كثيرا من شاعرية الكاتب في لغته الأصلية. فليس من المعقول أن تحمل الصفحة الواحدة كل هذا العبء، وبالتالي، أنت تقرأ أعباء، تحاول التخلص منها أثناء القراءة، وفي وقت ضيق جدا وبالتالي، يصبح مجهود الاستيعاب، ومجهود تجميل الصفحات حتى تستوعب جيدا، إضافة غير محتملة للقارئ، وقطعا سيترك الكتاب من دون أن يكمله.
حقيقة أنا لست من المتحمسين للتدقيق المبالغ فيه، في صناعة الإبداع، ولا من المؤيدين لانشغال المبدع في تجويد النحو والصرف وكيفية وضع علامات الترقيم، وما هو حرف العلة، والمعلول، وما شابه ذلك، رأيي أن يلم المبدع بأبسط قواعد اللغة التي يكتب بها، ثم يتولى الناشر عرض الكتاب على متخصص يقوم بمراجعته، قبل النشر، وبالتالي يحصل القارئ على متعة نظيفة بلا أي خدوش مزعجة، ولا كساح في إيقاف الجمل على ساقيها، وأيضا ينفد الكاتب من سهام النقد المتربصة به، والتي قد لا تجد شيئا في كتابته سوى الأخطاء، ومن ثم تسنها سهاما توجهها إليه. وأعترف بأنني من الذين يخطئون بدرجة ما أثناء الكتابة، لكن ليست تلك الأخطاء التي تنصب فاعلا بلا وجه حق، أو تمرغ مفعولا بجره في التراب، ودائما يستحضرني قول العظيم ماركيز، عن هذه المسألة، بأنه لم يكن معنيا يوما بالانتباه للأخطاء في كتابته، لأن هناك من يقومها قبل أن يراها القارئ.
إذن هناك كتاب مهم، أفلت من ذلك المقوم المفترض أن يكون واسطة خير بين الكاتب والقارئ، وفي هذه الحالة أقول بين المترجم والقارئ، والترجمة أيضا نوع متفرد من الإبداع وليست حرفة ميكانيكية، تؤدى بلا مشاعر كما يعتقد البعض، فالمترجم الناجح هو الذي يمنحك نصا كأنه كتبه هو بلغتك، وفي نفس الوقت يحس الكاتب الأصلي بأن كتابه لم يسرق فنيا، ولكن تم تجديد مظهره بقميص جديد يلائم البيئة التي نقل إليها. وهذا ما نجده عند مترجمين مجيدين بعضهم يترجم للعربية مثل صالح علماني، وطلعت شاهين، وعبد المقصود عبد الكريم ومحمد عيد إبراهيم، وبعضهم يترجم للغات أخرى مثل جوناثان رايت ووليام هتشنز،ورافائيل أورتيجا، وهمفري ديفيس واكزافيه لوفان.
أقول بأنني كنت إذن سأتجاهل بعض الأخطاء وأمضي حثيثا في النص حتى أكمله، لو كانت تلك الأخطاء (بعضا)، ولكن أن يكون الخطأ هو الأساس، والصواب هو الاستثناء، ذلك ما يقمع رؤيتي، ورؤية ماركيز قبلي، ويجعلني أتساءل حقيقة: أين الناشر العربي من كل هذا؟، ولماذا يوجد في الغرب محرر، ينشغل بمطاردة النواقص في أعمال الكتاب، بغية إكمالها، ولا يوجد عندنا سوى عدد قليل من دور النشر التي تتحقق من أهلية النص، قبل تصديره للناس؟..
أيضا مهنة المدقق هذه، هل كل من يمتهنها مؤهل لها، أم هي أيضا مثل مهنة الكتابة، تضج بشاغليها بلا مقدرات حقيقية؟
أعتقد جازما إن هذه الجمل مثلا، لا يمكن أن تكون مرت على مدقق، وإن مرت فلا بد من مقاضاته:
أرسل نظرة عيناه إلى عيناها
كان الرجل طويل وأنيق
يمتلك بيت واسع
لقد كنت في بداياتي، أرسل نصوصي إلى مدققين محترمين أثق فيهم، من أجل تنقيتها وملاحظة ما يعكر صفو القراءة فيها، ثم أصبحت دور النشر التي أتعامل معها، تتولى هذه المهمة، وبالرغم من ذلك أعثر على أخطاء أحيانا، وفي واحدة من رواياتي، كانت ثمة أخطاء مؤلمة لكن ليست بأي حال من الأحوال، تشبه تلك التي ذكرتها عن نظرة العينين المرفوعة بلا وجه حق، والطول والأناقة حين ظلما نحويا.
أعود لأردد: إن العمل الإبداعي، في كل المجالات، ليس من المطلوب أو من المفترض محاكمته بصرامة، ولكن ليس من العدل أيضا تركه بلا سؤال، إن تجاوز الحد المعقول للحماقات وأصبح يتجول عاريا.
أمير تاج السر