عن «داعش» وتدمير «النوري» وتَحْريرٍ لا يُشْبِهُ الانتصار.. كَمَنْ يُمَزِّقُ مُسَوَّدَة لِيَنْكَبَّ على أخْرى
في الثّاني والعشرين من حَزيران/ يونيو الماضي غرَّد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي مُعلّقا على مبادرة «داعش» تدمير مسجد النوري قائِلا: «تفجير داعش لمنارة الحدباء وجامع النوري إعلان رسمي لهزيمته»، وفي اليومِ نفسه نقلت عنه وسائل الإعلام التقليديّة أنّ الإعلان عن «تحرير الموصل بالكامل» مسألة أيام.
ما بين يومذاك واليوم، صدق العبادي وعده وحُرِّرَت معظم الموصل من قبضة «داعش». وفي هذه الأثناء كان الحصار المضروب على الرقة يشتد جاعلا مِنْ سقوطها، مسألة أسابيع. رغم كلّ هذه الأخبار السارة لم يتّسع الخرابُ، الخرابُ البشريُّ كما الخراب المادي، السابِقُ منه على تحرير الموصل واللاحِقُ عليه، للاحتفالِ بهذا الإنجاز، فقُضِيَ الأمر بمجموعة من الخطابيّات المكرورة، ومن برقيّات التهنئة الرسمية، تقول رتابَةُ تعابيرها مدى الإخفاق الذي يستولي على المُهَنِّئين، كما على أصحاب الاحتفال، في تحويل هذا الانتصار إلى استحقاق يُبنى عليه ويُؤسَّس.
هل ما يدهش حقّا في أنه كذلك؟ وهل كان يُمكن غير ذلك؟ الأرجح أنَّ الجواب الواقِعِيَّ عن هذا السؤال المزدوج هُوَ «كلّا» مزدوجة بدورها. بالطبع، لا تَفْسيرَ مِنْ مُبتدأٍ وخبرٍ لهذا الإخفاق في الانتصار رغم النجاح في التحرير، والأرجح أن يبدو التفكير في هذا الإخفاق، للوهلة الأولى، مسألة ثانويّة بين يدي أزمة النازحين، وبين يدي التوتّرات بين العشائر التي ناصرت «داعش» وتلك التي عادتها، فضلا عن مسألة الإدارة السياسية للموصل وإعادة إعمارها ومن يَقُلْ إنَّ مَسْألة ما ثانويةٌ قياسا بأخرى فهو يعني استطرادا أنها تحتمل التأجيل.
يكاد هذا الترتيب للأولويات على هذا النحو أن يفرض نفسه فرضا، ويكاد أن يستمدّ تبريراته من القوى القاهرة التي تدفع إليه، ولكن ماذا لو أنّ هذا الترتيب هو من ودائع «داعش» فينا وبيننا، بل ماذا لو أنَّه مِن أسَمِّ الودائع وأفْتَكِها وأدعاها إلى التَّساؤل عن مستقبل هذا التحرير أو ذاك؟
فحصا عن صِحَّة هذا الافتراض لا بأس، لربما من تدقيق النظر في ما تعنيه مسارعة «داعش» إلى تدمير جامع النوري الكبير المثقل بالتاريخ القديم والحديث، الذي ارتقى منبره، ذات يوم من أيام تموز/ يوليو 2014، رجل متّشح بالسواد وأعلن على الملأ، بكل ما لكلمة ملأ من معان، قيام «الدولة الإسلامية».
بالطبع، لا بد من كثير من السذاجة ليأخذ الواحد بالتفسير الذي اقترحه حيدر العبادي: «تدمير جامع النوريّ = إعلانُ داعش هزيمته»؛ فداعِش، منطقيّا، لا يعمل في خدمة مَنْ يعدّهم أعداءه فيهديهم هزيمته على طبق من فضة أو من أنقاض.
فلنحاول، إذن، على خطورة المُحاوَلَة، أنْ نطلب لهذا الفعل معنى داعِشِيّا، أي معنى في سياق ما بَدَأه داعِش ما بدأه بوصفه، أحببنا ذلك أم استكثرناه عليه، حركة دينيَّة إحيائيَّة، أي حركة تسعى إلى نفخ الروح في زمن هو في عُرْفِه، وفي تَصَوّره، عَصْرٌ خلاصِيٌّ بدأ ذات حين، ثم تألَّبَت قوى الشَّرِّ عليه فَعُلِّقَ في انتظار أنْ يَخْرُجَ مَنْ يَفكّ تعليقه، فيستأنف ذلك الزمن دورانه.
في هذا السياق من النظر إلى «داعش»، فإنَّ تدميره المسجد النوريّ، بصرف النظر عن زعمه بأنَّ طَائرات التحالف هي التي دمّرته، يبدو أدنى إلى التدبير الانكفائيّ، في المفهوم العسكري الميداني، الذي أرادَ منه التنظيم، مع دُنُوِّ أجَلِ استيلائه على الجغرافيا التي يقوم فيها هذا المسجد، الدفاعَ عن سيرته التي ينزل منها هذا المسجد منزلة المهد. أضعف الإيمان أنْ يكونَ فريق من المعماريين قَد انكبَّ، من لحظة الإعلان عن تدمير المسجد النوري، على وضع الخطط لإعادة إعماره، وأن تكون أنفاس هؤلاء المعماريين، وأنفاس حواسيبهم، قد تقطّعت في احتساب زوايا احْديداب مئذنته، واحتساب أكلاف استنساخه، وكم من وقت سوف يقتضي إنجاز هذا الاستنساخ، وغيره وغيره، ولكن أضعف الإيمان، أيْضا، التسليمُ بأنَّ حَيدر العبادي، وسواه مِنْ كبار المسؤولين العراقيين، لن يُصلّوا في القريب العاجل في النّوري شُكرا لله على تحرير الموصل، بل منتهى أمرهم أن يجولوا بين الأنقاض، وأنْ يقفوا على الأطلال، أطلال النوريّ وسواه، واعدين بإعادة الإعمار، متوعدين فلول «داعش» بالويل والثبور.
لم يتصرّف «داعش» يوما على أنه دولة هشة أو موقّتة، بل سعى، من أول استيلائه على مناطق واسعة من الجغرافيّتين السوريّة والعراقيّة، ومن توصيل أوصال هاتين الجغرافيّتين، إلى الترويج لدولته تحت عنواني «البقاء»، (ومن شروط البقاء حسن الإدارة والتنظيم، وهذا ما لم تكفَّ الدعاية الداعشيَّة عن التمثيل عليه)، و«التَّمَدّد»، (ومن شروط التَّمَدُّد، فضلا عن وضع اليد على كيلومترات مربعة، استدراجُ المزيد من الرعايا، وهذا أيضا ما نجح «داعش» فيه)؛ وإذ يسقط «داعش»، اليوم، عسكريّا فلا بدَّ من الاعترافِ بأنَّ ما أعَدَّهُ خلال السنواتِ الماضيَةِ يجعل من سقوطه، موضوعيّا، شيئا أشبه بسقوط «الدول» الكاملة الأوصاف مِنْهُ بسقوط «منظّمة إرهابيّة» اتخذت لها، على غفلة مِنَ الزمن، مِنْ دسكرة بائسة مُعْتَصما وغرفةَ عمليات.
يبقى من «الدول» بعد سقوطها ما تُخَلِّفُهُ مِنْ آثار، وآثارُ «داعِش» هي كُلُّ هذه الأطلال! قد يختلف الباحثون في ترتيب كلِّ هذه الأطلال من حيث أهميتها التاريخيَّة والأركيولوجيّة، فيذهب بعضهم إلى أن «النوريّ» لا شيء يذكر أمام الحضر (جنوب الموصل)، أو مرقد النبي يونس، أو كنيسة الساعة ومكتبتها، أو سواها من المرافق التي أحالها التنظيم أثرا بعد عين، وأنّ إعادة إعمارِه لن تكون الأصعب على لوائح إعادة الإعمار. نعم، لقد يكون ذلك، غير أنَّ الأطلالَ لا تتساوى، أو لا تتساوى، في أهمّيتها التاريخية والعلميّة فقط، وإنما في محمولها الرمزي أيضا، وفي ما يُوْدِعُهُ تدميرُ أحَدِها من رسالة على نِيَّةِ مَنْ يعنيهِم الأمْرُ وفي هذه الحالة على نِيَّتِنا جميعا.
قد أبالغ لربما ولكنني كلما تفكرت في تدمير «النّوري» ازددت اقتناعا بأنَّ صاحب الأمر من شَرْعيّي «داعِش» الذي أفتى بهذا العمل، إنما أرادَ مِنْ وراءِ ذلك أنْ يُجْري على التنظيم، وآثاره، ما أجراه التنظيمُ على آثار الآخرين. ف«النوري»، بعد سقوطِ «دولة الخلافَة»، يَشْهَدُ عَلَيها لا مَعَها، وهذا سبب أوَّل ولكنه، على الأرجح ليس السببَ الوحيدَ ولا السبب المُرَجّح. ف«النّوري»، أيْضا وأيْضا، شَهِدَ مرورَ «الخَليفة» على منبره، وشهد الإعلانَ عن قيام «الدولة»، ومن غَيْرِ المُسْتَبْعَدِ أنَّ يُزَيّنَ هذا المرورُ وهذا الإعلانُ، لمن قَدْ تُصيبُهُم لوثَةُ الحَنينِ إلى «الدَّوْلَة» الحَجَّ إلَيْهِ والتَّبَرُّكَ بالصلاة فيه، أي أن يُزَيِّنَ لهؤلاء تَحْويلَه، بلغة «داعِش»، إلى مَرفق «شِرْكي»، وبذا يكون «داعِش»، مُحَطّمُ الآثارِ، قد ضَرَبَ صَفْحا عَمّا أنتجه هو، خلال حياته القصيرة، مِنْ أثر.
غير أنَّ الأمر لا يَتَوَقَّفُ هنا، فتدميرُ الآثار في منطق «داعِش»، وما يُعادل هذا التنظيم مِنْ فِرَقٍ تَرْفَعُ التَّوْحيدَ أعْلى عِلّيين، لا يُرادُ منه التخلصُ منها بذاتها، بل لما تَتَسَبَّبُ به مِنْ إشغالٍ عن التَّوْحيد ذاك، وبهذا الاعتبار فالأوْلى أنْ يعمّنا الخوفُ مِنْ إقدامِ «داعِش» على تدمير «النّوري»، بفتواه وبأيدي جنوده، لا أن نفرح بذلك، فكأني ب»داعِش» إذْ فَعَلَ ذلك إنما أشْبَهُ ما يُشْبِهُ كاتبا يُمزّق مسودّة وضعها لا ليعتزل الكتابةَ، وإنما ليستأنِفَ سَعيه ولينكبّ على تحبير مسودّة جديدة.. ولا يُظَنَّنَ أنَّ تشبيه «داعِش» بالكاتب القَلِق ضرب من توهّم أو من خيال، وخير دليل على ذلك أنَّ تاريخنا يعجُّ بمُسَوَّداتِ «داعِشَ» من قبل أن وجد داعِشِ الذي يتُحَرَّرُ اليومَ من قبضته في هذه الجغرافيا أو تلك.
وإنْ تكن سوابِقُ «داعِش» قد سَقَطَت قبل أن تجد الوقت الكافي لكي تدمِّرَ آثارها، فأقَلُّ الأقلِّ، أمام مشهد هذا الداعِشِ الذي بَلَغَ مِنَ الوَعْي أنَّه قَدْ يتَحوّل هو نفسه إلى أثر شركِيٍّ يُلْهي عَنْ إعادَةِ الكَرَّة، كرَّة الخِلافَةِ ودولتها، فبادر إلى تدمير «النوريّ»، أيقونته بامتياز، أقَلُّ الأقلِّ أنْ نُبادِئَ أنْفُسَنا بالتَّوَجُّسِ مِنْ «داعِش» المُقْبِل الذي ينمو في أرحامِ بُؤسنا والأنابيب…
روائيّة من لبنان
عن «داعش» وتدمير «النوري» وتَحْريرٍ لا يُشْبِهُ الانتصار: كَمَنْ يُمَزِّقُ مُسَوَّدَة لِيَنْكَبَّ على أخْرى
رشا الأمير