فالح عبد الجبار ورحلته الأخيرة في دروب المخيال السنّي الوعرة

فالح عبد الجبار ورحلته الأخيرة في دروب المخيال السنّي الوعرة

فالح عبد الجبار ورحلته الأخيرة في دروب المخيال السنّي الوعرة

رحل عن حياتنا قبل أيام قليلة السوسيولوجي العراقي فالح عبد الجبار، مخلفاً وراءه إرثاً فكرياً على صعيد الترجمات والكتب والدراسات الميدانية، خاصة تلك التي أعدها في سنواته الأخيرة. وكان فالح قد مر بمراحل فكرية وأيديولوجية عديدة؛ لكن الأهم من ذلك أنه كان أكثر اهتماماً في السنوات القليلة الماضية بالبحث الميداني مقارنة بجهوده النظرية الأولى في السوسيولوجيا الماركسية. ولعل هذه الجهود الميدانية بدت بشكل واضح، سواء من خلال إشرافه على المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية، الذي اهتم بقراءة المجتمع العراقي من منظور سوسيولوجي وأنثروبولوجي/تاريخي، وقدّم في هذا الصعيد وعبر عدد من الباحثين الغربيين دراسات ميدانية عديدة حول العراق الحديث، وإثنياته وطوائفه، والصراع الاجتماعي الذي شهدته البلاد بعد عام 2003.
ومن بين الجهود الميدانية الأخيرة، كان الراحل قد أبدى اهتماماً بدراسة سوسيولوجيا الجماعات الدينية والقتالية في العراق، وهذا ما نعثر عليه في مجموعة من الكتب مثل كتاب «العمامة والأفندي» الذي خصصه لرسم صورة عن المشهد الشيعي في العراق، بشخصياته ومؤسساته، وأسره وفئاته، واقتصاد الحياة الدينية. أما على صعيد سوسيولوجيا الجماعات القتالية، فأنجز قراءة سوسيولوجية عن علاقة تنظيم الدولة الإسلامية بالمجتمع المحلي في العراق في عام 2015، ذروة تصاعد وسيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» على مناطق واسعة من العراق وسوريا؛ وقد تأخرت ولادة الكتاب لعام 2017، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بعنوان «دولة الخلافة والتقدم إلى الماضي». حاول عبد الجبار عبر جولات ومقابلات ميدانية أجراها برفقة مجموعة من الباحثين المساعدين، تقديم صورة عن الحياة اليومية في «مستعمرة العقاب» التي بناها تنظيم «الدولة الإسلامية» في محافظة الموصل، وعلاقة رعايا «الخليفة» بالمجتمع المحلي والعشائري وبطبقة رجال الأعمال.
وقد استطاع عبد الجبار من خلال تفكيكه لرموز «الدولة الجديدة» في الموصل، وعلاقة هذه الرموز بالمجتمع المحلي نقد بعض السرديات الشائعة، التي ترى أن تنظيم «الدولة» هو وليد المجتمع المحلي البدوي في المناطق الغربية/السنية في العراق، وهو طرح يرفضه عبد الجبار؛ إذ يرى أن الفرضية التي تعتقد بأن «صعود تنظيم الدولة الإسلامية، يرتبط جوهرياً بقبول الحاضنة الاجتماعية، أي المجتمع المحلي؛ وأنه لم يكن ممكناً لولا القبول الضمني من هذه الحاضنة»، هي فرضية شائعة، وفقيرة على مستوى التحليل، وتتناسى أن الأزمة تعود بالأساس إلى ما يدعوه ب«الأزمة الوجودية « للدولة المشرقية «الفاشلة» وإخفاقها في بناء الأمة أو إعادة خلقها من جديد.
ووفقاً لفالح عبد الجبار، تظل المناطق الغربية وكأنها عالم مجهول. ومثل أي عالم مجهول، تزداد الخرافة حوله، لأن الصورة النمطية الجامدة هي المهيمنة. من هنا يريد الخصم ترسيخ صورة الطائفيين الذين يحتضون الإرهاب ويصدرونه. بيد أننا نجد أن ثمة شكلا من التماهي بين الغربية والطائفية السنية، أو السلفية المحاربة والبعث ودولة الخلافة بالطبع. ففي عراق الإسلام السياسي الشيعي، هذه المقابلات متطابقة، متماثلة، بل هي مقولة واحدة. وهي جزء من المخيال الشيعي، وجانب من السياسة الرسمية للدولة إزاء هذه المناطق. هذه النقلة المنهجية في رفض فكرة أن التطرف هو وليد المجتمع المحلي (السني بالأخص)، سيسعى عبد الجبار إلى تفسيره بشكل أفضل، من خلال دراسته في الكتاب لحكاية المخيال السني في العراق، والتبدلات والطبقات التي شكّلت هذا المخيال بعيد عام 1991، عام الهزيمة العسكرية في حرب الكويت، التي قوّضت الدولة العراقية، وهو كذلك عام نشوب تمردات مسلحة ضد الدولة. هذه الفترة يمكن أن نعدها، وفقاً لمؤلف الكتاب، مرحلة تغيير مفاجئة في المخيال السني داخل العراق. ففي اجتماع لقيادة الحزب تساءل الزعيم عن طبيعة الحزب: أهو علماني أم إيماني؟ وأجاب بأنه اختار أن يكون إيمانياً. كان هذا الانقلاب الأيديولوجي ناجماً عن الهزيمة والانهيار الأيديولوجي الناتجين من حرب الكويت، وإعلان إفلاس أيديولوجي. وقد نتج عن هذه الحملة الإيمانية خليط من السلوكيات الدينية التي لم يعتدها أبناء هذا الحزب العلماني، إذ بات الرفيق معنياً بأداء الصلاة في الجوامع، والرفيقة التقدمية معنية بارتداء الحجاب. وقد جاء غزو العراق في عام 2003 ليعمل على تعميق عناصر هذا المخيال السني؛ إذ لم يعد الهاجس هو الخوف من ضياع الدولة، بل مواجهة الضياع نفسه؛ خصوصاً أن دولة جديدة أخذ يسيطر عليها العدو «القوى الشيعية».
في البداية كان البعثي اليتيم واقعاً بين الحزب والإسلام والقبيلة، بين العروبة «المتأسلمة» والإسلام السلفي الجامع الخالي منها، والقبيلة الغارقة في أيديولوجيا النسب وحمأة التنافس على الزعامات والموارد. وقد عبر هذا القلق والحيرة عن نفسه في عام 2006 و2007 من خلال تمرد عراقي على الهيمنة السلفية غير العراقية، ورجحان كفة البراغماتية الدنيوية على العقائدية المتصلبة. لكن حركة معاكسة ستنشأ بعد خروج القوات الأمريكية في عام 2011: انتقال البراغماتية الدنيوية من المشاركة السياسية إلى الاحتجاج العنيف، واحتدام المزاج المعادي للحكومة المركزية على قاعدة تظلم طائفي في ظل سياسات حكومة المالكي. كما ترافق ذلك مع تسريح وحدات كبرى من الصحوات التي أنشأها الجنرال الأمريكي ديفيد بترايوس في إطار خطته السياسية العسكرية لمكافحة التمرد، التي كانت قائمة على زج المجتمع المحلي وإشراكه في كعكة الدولة.
وكان من نتائج هذا الوضع، وفقاً للمؤلف، بروز الكائن الهجين: البعثي/السلفي إلى الواجهة، واحتلاله هذه المواقع الحاسمة والمؤثرة في دولة الخلافة. وهنا لم يتخذ المنقذ مباشرة صورة السلفي الملثم، بردائه الأسود، بل جاءت فكرة الخلاص في صورة وعد وبشارة انتشرا في الموصل وبعض مدن الأنبار بقرب نشوب ثورة شعبية يقودها البعث وشيوخ العشائر والعسكريون السابقون وبعض الوجهاء، ويفترض أن قوات الدولة الإسلامية كتيبة من كتائبها. لكن ما حدث هو أن تنظيم الدولة أخذ ينافس المتمردين من أجل النفوذ والسيطرة على مستوى القواعد الشعبية، عبر إظهار نفسه بوصفه طرفاً في حل النزاعات، لا طرفاً في تأجيجها، وبوصفه ممثلاً للجماعة الوطنية كلها. الأمر الذي نتج عنه لاحقاً سيطرة تنظيم «الدولة»، وملاحقته لباقي القوى المشاركة، والسيطرة على أغلب المناطق الغربية في العراق.
وبناء على هذا السرد لحياة المخيال السني العراقي، خلص عبد الجبار إلى أن المجتمع المحلي ليس العامل الوحيد، في ولادة ظاهرة تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق، وأنه رغم فشل «مشروع الخلافة»، إلا أن مقومات الدولة «الفاشلة» من شأنها أن تعيد إنتاج الظاهرة بأشكال أخرى في المستقبل، وأن هذا الأمر لا يقتصر على العراق، لكن يتعداه إلى بلاد أخرى، خصوصاً تلك الغارقة في نزاع مذهبي/جهوي/إثني/قبلي، كما في سوريا وليبيا واليمن.
٭ كاتب سوري

m2pack.biz