فقدان الذاكرة والنسيان لكتابة الرواية
ماذا لو أصيب بعض كتاب الرواية عندنا بفقدان الذاكرة، وقتا قليلا، أو خضعوا لغسيل دماغ الغاية منه محو الآثار الطاغية ل»أنا»، والذاتية، والنرجسية؟ الأمر أكبر من افتراض، إنه أمنية، حتى يكتبوا للقراء نصوصا عن عالم الغير، وليس مجرد تدوينات أشبه بما تكتبه ربّات البيوت على الفيسبوك، عن المشاغل اليومية من إعداد للفطور ومرافقة الأولاد للمدرسة وإعداد طعام الغداء وغيره، أو بما يدونه المدونون عن حركاتهم وسكناتهم، ليل نهار.
العذر أكبر من الزلة: توسل آخر صيحات الكتابات النقدية: المتخيل الذاتي (ولو أنه وصل بعدما تفسخ من جلده الأصلي وغادر مسقط رأسه، أربعين عاما من ذي قبل، أو السيرة الذاتية المقنَّعة، أو كتابة الذات)، وغيرها من الألفاظ التي لفظها جمهور الجامعات الغربية، فالقارئ لا يهتم بحياة الكاتب الاجتماعية، بقدر ما يتوق إلى قراءة روايات عن الإنسان بصيغة الجمع، قراءة التجربة الإنسانية، وليس مدونة أخبار بصيغة الحكي.
حينما أتمنى أن يصيب داء فقدان الذاكرة الكتاب، فالمقصود ليس الكاتب بشحمه وعظمه، بل المؤلِّف، الذي اشتق اسمه من التأليف، أي المؤلف المجرد الذي يعتبر جزءا من العمل الفني وليس خارجا عنه؛ المؤلف الذي قد يتناول مادة بناء عمله الروائي من حياته أو من حيوات الآخرين، بدون إغراق في الحالة الأولى، أو يستلهم حادثا وقع فعلا، أو يستعين بالتاريخ وبغيره من مواد البناء والأسلبة، أو قد يجنح به الخيال إلى أقاص بعيدة. لماذا التكالب على التنويع السيرذاتي، أو المتخيل الذاتي حصرا؟ هناك أجناس فرعية أو تنويعات أجناسية لم تنل الاهتمام الواجب. الرواية البوليسية مثلا، أو الرواية التاريخية، أو العجائبية ،أو بكل بساطة الرواية باختصار، أي تلك التي تحظى بقراءة المختص وغير المختص، الرواية التي تقرأها الجماهير العريضة، بدون الحاجة إلى عُدَّة نقدية أكاديمية يصير معها القارئ وكأنه خاضع لاختبار يدور حول كتاب فيليب لوجون أو جان ستاروبنسكي.
حينما نخص بالذكر بعض الكتاب، فذلك تمييزا لقلة تبدع في الرواية، وثانيا لأن هذا «البعض» صار اليوم كثرة، حيث صدَّق الخبر الكاذب الذي مفاده أن الرواية أصبحت «ديوان العرب اليوم». وكثيرٌ من يذهب إلى تفسير الظاهرة كونها هجرة إلى الرواية فرضها العصر، والحال أن في الأمر استسهال، وكل من نسج حكاية مطولة ظنَّ أنه فعلا كتب رواية، وخللها بالكثير من البياض، ووشَّاها بتعدد أصوات، وفهم انفتاح الرواية بأنه ذلك الخان الاسباني المشرعة أبوابه على شتى الاتجاهات والوافدين؛ والحال أن من أبدعوا في هذا الجنس الأدبي عبر تاريخه العالمي بدأوا أولا بكتابة رواية متوافق على أنها كذلك، ثم من داخل هذا الجنس عملوا على تجديده وتجاوزه، سرفانتس محاورا لرواية الفروسية، فرانسوا رابلي موظفا معجم الساحة العامة وأشكال وصور الاحتفال الشعبي، جيمس جويس كتب بادئ الأمر «صورة الفنان في شبابه» وبعدها حلق بعيدا برائعته «عوليس» ومونولوغاتها الصامتة، والأمثلة كثيرة، ولنا في عملاق الرواية العربية والعالمية نجيب محفوظ خير مثال، هو الذي عبَر بالرواية العربية منذ البدايات كل تحولاتها ولم يثبت أنه أغرق في الأنانية بعد كل تلك الشهرة. نحن في حاجة إلى رواية تنسي القارئ أنه أمام دفتر للحالة المدنية، أو شهادة ميلاد، أو دعوة لحفل شاي أو زفاف، وقد تكفل «الكاتب» بجعلها في قالب حكائي، تؤثثه شخصيات لها أسماء بدون عمق نفسي أو اجتماعي. الواقع العربي من المحيط إلى الخليج متاح للكتابة العجائبية والبوليسية والفانتازي وغيرها من الأجناس، بالطبع هناك روايات تنتمي لهده الأجناس لكنها ليست بالشكل الذي يجعلنا نتوفر على أجنحة مخصصة لها، مثلما نجد في مكتبات العالم، بالكاد نضع «وسم» رواية على هذا الخليط المتنافر الذي تطغى عليه رواية «الأنوات»، ومن فرط الاختلاط لاذ الكثير من كتاب هذا النوع من «الرواية» بمفهوم «النص»، وجعلوه مشجبا يعلقون عليه كل زلاتهم وهفواتهم، والحال أن النص، في عرفهم هو أقرب إلى معنى «نصَّ المتاع نصّا، جعل بعضه على بعض»، وبالفعل، في هذه «الروايات» (تجاوزا) نجد ركاما من الأغراض: اليوميات، المذكرات، الأحلام، المقالة الصحافية، محاكاة المقامة، والنادرة، المسرح، والكثير من العناصر التي تعطي في آخر المطاف «خلطة» عسيرة الهضم، بهاراتها لا تنسجم مع بعضها، ومرقها لا لون ولا رائحة له! إن مواد البناء إذا افتقدت الانسجام والتناغم، لن تمنحنا نصا جديرا بهذا الاسم، ربما تضع أمامنا مادة عضوية، مشوهة، صالحة للدفن. إن الرواية تجيب عن أسئلة التقليد الإجناسي والأدبي الذي منه انبثقت، كما تضع أسئلة قد تتم الإجابة عنها عاجلا أو آجلا، إذ بدون إدراك لهذا التاريخ الأدبي الهائل والنهل منه، لا يمكن لكل مبتدئ الادعاء أنه يكتب رواية فعلا وحقا. لأن الإبداع اللفظي بكل بساطة وعمق هو إنتاج ثقافي إنساني، جمالي ذو دلالة. لا يكفي أن نقدم «شهادة» أو «إفادة «على أنها حكاية سيرية، أو تجربة روائية ذاتية، كما لا يمكن جمع كل ما توفر من مواد البناء والأسلوب وتوقع الظفر باستحسان القراء. إن المبدع في فن الرسم يستخدم اللون، والخط والمنظور، والصبغة والقماش والورق بصفتها دعامة، مواد عضوية وهندسية، تخاطب العين في الوقت الذي يستعين فيه المؤلف الموسيقي بالصوت مادة أكوستيكية، فيزيائية، تخاطب الأذن، فاستعمالهما لهذه المادة أو تلك محكوم بقصدية فنية. أما المؤلف الكاتب، في الحالة التي تخصنا، فهو يشتغل بالكلمة، إنه يمنحنا إبداعا لفظيا مادة بنائه بسيطة، عميقة وخطرة في آن معا، إنها أداة التواصل الإنساني المباشر والمتداول، من المؤكد أن الكلمة بصفتها مادة بناء هي بدورها مثل الخط أو اللون أو الصوت، مجرد أداة لا تفعل، إذ تستعمل في ظروف ومقامات مختلفة، يستعملها العالِم والمتعالم والجاهل، إنها هناك في متناول المتكلم والكاتب، لكن الفرق يصنعه المؤلف الفنان بحق، الذي يقوم بنقل الكلمة من ظروف ومقامات وأفواه أشخاص إلى ظرف ومقام جديد يتدخل فيه فعلُ المؤلِّف، بوصفه ذاتا كاتبة تصَفِّي الكلمة وترتبها حسب ظروف ووفق مقامات شخصيات متخيلة؛ إنه المؤلف الذي يتعامل في عملية الإبداع اللفظي بالكلمة ويوجهها إلى قراء ومتلقين لهم خلفيات مرجعية لغوية وثقافية مخصوصة؛ إنه يتدخل في عملية التفاعل مع العمل اللفظي الفني وهنا يقوم ما هو «جمالي» بصقل ما هو «ثقافي وإنساني»، ثقافة الفرد الخاصة وثقافة المجتمع.
إن الإبداع اللفظي تجسيد لعملية استيعاب عنصرَيْ «الثقافي والإنساني» بعد إخضاعهما للمصفاة الجمالية. إن التفاعل قائم بين الخارجي (عالم الحياة والأشياء، سواء كان حقيقيا أو متخيلا) والداخلي (عالم الشخص المبدع الذاتي والنفسي…) ما لم يهيمن أحد الطرفين، وتمريره عبر الذات كمرحلة أولى منفعلة ومتفاعلة، والعودة إلى الموقع الخارجي، فالتفاعل قائم طالما حافظ المؤلف المتأمل على موقعه الخارجي التموضع، إن هذه العودة ضرورية وإلا سوف نكون أمام انصهار مَرَضي مع الموضوع ومادة البناء والشكل وبالتالي انعدام القدرة على الفعل والحكم والتقييم، وتصير ذات المتأمل منفعلة فحسب؛ وحتى لو كان البطل سير ذاتيا، يعتمد الاستبطان الاعتراف أو غيريا، فإن المؤلف هو من يتحكم في عملية التأليف، وليس البطل باعترافاته وكلامه الصامت وغيرها من تجليات الذاتي في الكتابة. وحينما تهيمن مادة البناء يصير الشكل بمثابة محتوى قديم، أي كأن يكتب أحدهم في الرواية بمعايير شكلية صرفة مثلما كان يفعل الكاتب المسرحي في جنس التراجيديا، إذ يكتب وفق قوانين صارمة وهي كلها عناصر شكلية (وحدة الزمان والمكان والحدث وغيرها من القوانين الفنية والأخلاقية)، وبالتالي فإن عملية الكتابة في الكثير من «الروايات» تقف عند مرحلة الصياغة الشكلية، صياغة شكلية وجمالية خالصة، تقنية لا غير. حالها مثل من أراد أن «يخلق» صورة وجه امرأة تحاكي الكمال، جمعه من أجمل نساء العالم، لكن الحاصل كان «مخلوقا» مشوها، لأنه يفتقد الانسجام الداخلي والتناغم القيمي؛ والرؤية الفنية والجمالية؛ مثل هذه الكتابات «الروائية» التي تكتفي بالصوغ الشكلي والفني المجزء، ليست سوى «مسودات» ما قبل إبداعية جمالية، يهرع أصحابها إلى نشرها بعد تجميع كل ذلك الشتات، ظنا منهم أنهم استطاعوا أن ينفذوا من سموات الرواية العالمية، التي لو تكبدوا عناء البحث في سِيَرِ بعض من أصحابها لوجدوا أنهم كانوا يقذفون بمئات الصفحات في مهملاتهم قبل الخروج إلى الناس بما كسبت أقلامهم. وبالجملة، لا يهم كثيرا أن يعتمد المؤلف على «ذاتيته»، لأن نفي الذات مستحيل، لكن المطلوب أن ينسى قليلا ذاته ويبدع رواية، وليس كشفا تحليليا غفله محلل نفساني فوق أريكته. فقليلا من النسيان، وكثيرا من الإبداع، مع الدعاء لمثل هؤلاء الكتاب/الأشخاص بأن لا يصيبهم مكروه، مثل فقدان الذاكرة، أو غسيل دماغ قسري.
ناقد أدبي ومترجم المغرب.
شكير نصرالدين