فنجان قهوة مرّ للغاية
منذ نعومة أظفاري، كنت أعشق ساعات الفجر الأولى، لحظات انبلاج النور، معلنةً بداية يوم جديد وأمل جديد.
أكثر ما كنت أستمتع به عند انتقالي من طرابلس الى بيروت، أو الى أي مدينة أخرى، هو ركوب السيارة في الصباح المبكر والاستمتاع بتلك اللحظات التي تبعث فيَّ الروح.
أمس، توجهتُ مع ابنتي الى طرابلس، مدينتي الفيحاء. كالعادة، اخترتُ الانطلاق مبكرةً، كي أعيش تلك اللحظات الحالمة التي تعيدني الى طفولتي العزيزة.
في الطريق، توقفتُ عند أحد المتاجر لعلّي أحصل على فنجان قهوة ينعش ذاكرتي.
ركنتُ السيارة، لأتأمل طويلاً مشهد ذلك الرجل الستيني المرتدي بدلةً توحي بأنه حارس ليلي في مكان ما. كان متكئاً على عصاه فغلبه النوم، فلم أشأ أن أوقظه أو أزعجه.
ما هي إلا دقائق قليلة حتى استفاق من غفوته وصاح مرحّباً: “تفضلي يا عمّو”.
نزلتُ من السيارة، فبادرني معتذراً عن غفوته، شارحاً أنه عاد للتوّ من عمله كحارس ليلي في احدى الشركات ليفتح دكانه ويتابع كسب رزقه. “ما تواخذيني يا بنتي، العمر إله حقّ”.
أذهلني ذلك الرجل. فسألته، وأنا أحاول كتم دهشتي: “هل من المعقول أن تظلّ مستيقظاً طوال الليل، فلا تحصل على قسط من الراحة أو على قليل من النوم؟”.
“هيدا أيلول يا بنتي. الحمدلله، أقساط مدارس ومونة… الحمدلله”.
أخبرني أنه اعتاد أن يعمل ليلاً ويعود لينام في الصباح، ثم يعاود عمله في دكانه حتى موعد العمل الآخر. وهكذا!
سمعتُه يحدّث نفسه وهو يحضّر فنجان القهوة: “ابني مهندس كهربا، كل سنة بالجامعة تكلّفني 6000 دولار. هلّق عم شغّلو معي سيكيوريتي. ومع هيك، عم علِّم أختو كومبيوتر بلكي بيكون حظّها أحسن من حظّ خيّها وبيّها!”
كان يحدّث نفسه وفي قلبه لوعة، وفي عينيه دمعة حارقة لم يشأ أن يسمح لها بكسر أنفته. كان ينظر الى عصاه ويهزّها، كأنّه يلومها على ما آلت اليه حاله وحال أسرته.
أخذتُ قهوتي ومضيت.
أيعقل هذا؟ أما من وسيلةٍ لدى القائمين على هذا البلد لرفع الظلم والفقر والعوز عن الناس؟ هل من المعقول أن يعمل رجلٌ في العقد السادس من عمره ليلاً ونهاراً كي يؤمّن قوت عائلته ومستلزمات كرامتها وحقّها في العيش والسعادة؟!
الأنكى، أن يشعر أبناء هذا “الشعب العظيم” باليأس من كل شيء. فقد تعبوا حقاً، وهم يحاربون طواحين الهواء، في حين أن المسؤولين يعيثون فساداً، ويطحنون الناس، ويسرقون خبزهم، ويتركونهم على قارعة العبث والفراغ واللاجدوى!
السؤال الذي لا جواب عنه، أشربه مع فنجان قهوتي المرّة: متى نخرج من سوسيولوجيا الآخرة إلى سوسيولوجيا الدنيا. متى؟!