‘فين السؤال’
وبعد أن تتبعت كما ينبغي أن يكون التتبع ما يثيره وأثاره إطلاق مجموعة من الشعراء التونسيين حركة شعرية أو ما جاورها من ردود على ما يبدو رافضة أو معارضة أو مستنكرة أو منتقدة للتسمية وللأشخاص على حد السواء ولفعل هذا ‘التكتّل الشعري’ إن صحت العبارة ولن أقصد هنا لا من قريب أو من بعيد حزب التكتل التونسي الذي يقبع في إحدى مرتفعات البلاد وعلى أن هؤلاء الذين اجتمعوا تحت اسم ‘حركة نص’ ليسوا وحدهم من التجؤوا أو اتقوا لفح العزلة ولو بمجرد إقامتهم الرمزية تحت تسمية مشتركة بإطلاقهم لمجموعة بما في كلمة المجموعة من معنى مباشر وواضح.
فقد التجأ إلى نفس الملاذ روائيون ورسامون ومغنون ومن ذلك ‘مغنو الرّاب’ ولست متأكدا لعلّ بعض الطبالين قد ألصقوا طبولهم إلى بعضها البعض هذا دون أن أنجرّ كثيرا إلى ذكر ما فعل الساسة الذين راحوا ‘يقدّون’ مجموعات في أي بؤرة وأي ‘خرابة’ حتى أن الناخبين التونسيين ولما اجتمعت بأيديهم أوراق الأكثر من مائة مجموعة أو كما تسمى على سبيل التقليد الأعمى ‘حزبا’ اكتفوا بأن خربشوا على فراغات تلك الأوراق ما يشبه اللعنات أو ما يشبه الضياع واللافهم..مع ذلك فمعارضو مجموعة ‘حركة نص’ لم نر لهم قطرة حبر ولا حتى قطرة ريق معارضة أو مستنكرة أو حتى منتقدة ولو للصالح العام الخ..ربّما لأن الموضة ‘السياسوية’ جارفة كما قد تجرفنا جميعا أخر صيحة بنطلون قادمة من حيث لا نعلم. بعد قراءتي لهذه ‘الردود فعل’ استبشرت في البداية لإيماني المتعصب بالسجال والذي ظلّ خافتا في تونس على الأقل إذا ما قارنّاه ببعض الساحات العربية الأخرى. سجال جعلنا نلتجئ إلى قراءة بعض الصحف العربية للتنعم به وتمنّيه لبلدنا ونحن لا نملك سوى الأمنية وهو ذات السجال الذي دفعنا إلى طرق أبواب بعض الصحف للنشر فيها وذاته الذي نهاية جعلنا نهاجر ثقافيا وننشر كتبنا في تلك الساحات المتحرّكة والأكثر حياة. واكتفينا في بلدنا بحب سجال ولو حول ‘الكسكسي’ واكتفينا منه بتذوق أفق نخاله قريبا.
ها هنا تتنزل ‘الحركة’ ومن هنا قد يفهم أي متابع أن التسمية لن تخضع لحسابات أروقة الجامعة التونسية ولا لأكادمييها علما وأنهم في خفوت حركة البلاد الثقافية كانوا أحياء يرزقون ويقطعون الأروقة مشيا على أمشاط الأصابع خوفا من الباب المفتوح على البلد الذي تحرسه عصيّ الديكتاتور.
ذات الشبّان الذين أطلقوا الحركة كانوا يجتمعون في هامش المقاهي يتحدثون بنهم عما يحدث في إحدى البلدان العربية حيث عمد كاتب إلى نقد وزير الثقافة شخصيا بل واتهامه بالسطو على إرث البلد وكانوا يتحدثون بألسن سحرية عن ‘مجموعة’ مجلة شعر اللبنانية و’الطليعة الأدبيّة التونسية’ و’جماعة تحت السور’ وأحيانا يتجرؤون على القول أو التساؤل ‘لماذا لا نكوّن حركة بدورنا؟.’ نقول ذلك منحشرين وسط رواد المقهى الذين هم جماهير ذات أغلبية كروية والذين قد يكونون اليوم من يقود مظاهرات ذاك الحزب أو ذاك مؤيدين أو معارضين والذين وإن فرضنا أنهم قرؤوا على سبيل الصدفة عناوين مواد المعارضين ل’حركة نص’ سيعارضون وسيصرخون صراخهم الأشهى ‘ديقاج’ في وجه ‘حركة نص’.
سيكون خوفي عظيما إن كان معارضو ومنتقدو ومستنكرو حركة نص معارضين لها تحت نفس موضة المعارضة التونسية هذا بعد أن قرأت جلّ ما كتب حولها إلى درجة أني وفي نهاية كلّ من تلك المواد كنت أشتهي أن أعلق ب ‘فين السؤال؟’. (ومرجعي هنا مسرحية ‘مدرسة المشاغبين’ لما تحمله من رمزية في الذائقة التونسية وتطابق مع الشغب العام الذي يطال المدرسة وخارجها).
إذ يتشبث الذين كتبوا ‘ضد’ بدواعي أكاديمية نقدية مناقشين التسمية باحثين عن تأصيل في لسان العرب وغيره وفي الإرث النقدي التونسي أو حتى شبيهات الحركة في التاريخ الأدبي المحلي رامين عرض الحائط العفوية التي قامت عليها هذه الحركة والتي لم تستشر يوما ناقدا كما لم تعارضه، فكلّ ما في الأمر أن مجموعة من الشعراء أطلقوا حركة وعمد كل منهم إلى كتابة بيان اقتداء ببعض البيانات القديمة المعروفة أو تحت وطأة ما كان يشاهده في قلب البلد المضطرب. كما قلّب ‘الضديون’ كلام بعض أعضاء الحركة بما في ذلك زلات لسانه ضاربين عرض الحائط أيضا مقولة أن المبدع ليس عليه أن يلتجئ إلى أي ‘ناقد’ أو ‘متأثر بناقد’ ويطالبه ببطاقة جغرافية تبيح له لمس تلك الرقعة وعدم لمس الأخرى وجني تلك الفاكهة دون الأخرى وكلامي مستمد هنا من مقدمة لفيكتور هيجو نشرها في مفتتح كتابه ‘الشرقيات’ محاولا وضع حد للمصطادين لزلات الألسن من أجل لجم تلك الألسن لا من أجل إحداث حياة يموج فيها اللسان. سيبدو ما كتبوه ‘ضدّ’ ضبابيا غير واضح من ناحية أخرى في حين أنها كتابات تعد ب ‘العلمية’ مستنجدة بال’بارثية’ وغيرها واضعة شروطا للشاعر ولوجوده المرتبط على ما يبدو ببطن ‘الناشر’ التي لا تشبع إلخ…
فهل هذا حال النقد التونسي؟. هل هي تصفيات حساب شخصية؟. كتب ذاك ‘ضد’ فكتب صديقه أكثر ضدية وأجاب واحد من حركة نص مدافعا موضحا ليجيب آخر أكثر دفاعا..؟ هل كان على هؤلاء المجتمعين دون تخطيط أن يخططوا اتقاء لهجمات القابعين على الحافة منتظرين بنت الزلة؟. هل هو فعل اخصاء والحكم على التجربة بالفشل قبل أن تجرّب؟. هل على حركة نص أن تفشل لأن ‘حركة الطليعة الأدبية التونسية’ قد فشلت قبلها؟. فيم سيختلف هؤلاء عن جدتي عاشقة أم كلثوم والتي تعتقد جازمة من أن لا ‘بعدها ولا قبلها؟’ حتى أني أعتقد أنّ محاولاتي الفاشلة في أن أقنعها بأن المستقبل حمّال مفاجآت لن تقنع أيضا كل حامل لنفَس المطلّ من الباب المتثبت من امكانية أن يكون مخلوعا أو به ثقب. كان على ‘الضديين’ أن يكتبوا نصوصا دافعة وقد كانت كذلك رغم الكم السلبي الذي اتصفت به كان بإمكانهم النظر إلى مكامن الضعف دون هذا التوق الواضح إلى خلع الباب وانكار وجود الشاعر لأنه لم ينشر في حين أن المتنبي شخصيا لم يكن ليلتجئ إلى دار رياض الريّس ليصبح ما هو عليه ولم يوجد في زمن النشر البرقي كما لم يكن له لا حائط فايسبوكي ولا قائمة أصدقاء..كان بإمكانهم النظر إلى مجمل الأمر دون الاصطياد أيضا في زلات ماضي أعضائها، إذن: فين السؤال؟.
‘فين’ أقلامهم عندما كان الشاعر منهم يجوب البارات بكتاب عن بن علي لتدبر بيراته وإمرأته؟. فين أقلامهم في هذا الكمّ من التسوّل باسم ثورة تونس الأخيرة والابتزاز العاطفي باسمها والنجومية باسمها رغم أنها لم تصل إلى درجة ‘ثاء’ الثورة ولا حتى ‘فاء’ الفورة في كم البرد الذي يكتنف التراصّ التونسي ثقافيا كان أو شعبيّا؟. ‘فين’ انتقادهم للكاتب الفارّ بزاد الآخرين تحت عباءة بنفسجية؟. ‘فين’ أقلامهم عن ذات العصابة الثقافية التي فقأت تونس ودواخلها وولاياتها الداخلية لتصبح اليوم ثورية مستغفلة للرأي العام حتى أن أحدهم قد تحول من محرر بسيط في إحدى الجرائد إلى مدير تحرير وأشباهه كثر؟. ‘فين’ أقلامهم والمخلوع برمّته بعده في الساحة التونسية ك’حصان’ بحوافر أشد؟. ‘فين’ أقلامهم وقد تحوّل معظم الشعراء إلى محيي حفلات هنا وهناك؟.
هل تقف أقلامهم عند هذه المجموعة التي جلها ظل خارج أي أنطلوجيا شعرية تونسية لأنها لم تعتصم أمام وزارة الثقافة أو لأنها لم تعترف بالعبارة العنصرية ‘المبدع الشاب’ إلخ مما قد يحدث اليوم فوق الطاولة وتحتها في الشارع الرئيسي التونسي؟.
لا إجابة سوى ما قال أحد الشعراء بعد ضيق:
‘ولقد أقولُ لحاجب نُصْحاً له
خَلِّ العُروض وبِعْ لنا أرضا’.
وبناء عليه ونحن لم نختر عناء ذكر أسماء ‘الضديين’ نقدم نصحا ‘خلّوا حركة نص وأسسوا حركة تستجيب لمواصفاتكم ‘!