في مجموعته الجديدة «توستالا» يبحث عن المنفى الذي بداخله ويوثقه… العراقي عبد الهادي سعدون.. أنا في المحصلة مجموع ما كتبته
بغداد «القدس العربي»:
1
سأله وهو يراقب طقطقة الجمر في الموقد:
لماذا يسمونك توستالا؟
تنفس (الشامان) طويلاً ولم يجب قبل أن يدخن من غليونه الخشبي.
لأنني حكواتي أسرد القصص كما يحلو لي، أسمعها عن آخرين أو ابتكرها، الأهم في هذا كله، أنني أتلاعب بها بما أشاء، أضيف لها من هنا وأحذف من هناك، حر باختياراتي ولا أحد يمكنه أن ينازعني مكاني، لأن حكاياتي لا تشبه حكايات الآخرين، ولا تشبه حكاياتي نفسها التي سأسردها يوم غد… التوستالا بلغة قبيلتي معناه الحكواتي الحُر.
وهل قلت كل الحكايات التي بحوزتك أم بقي منها ما ستسرده علينا؟
الحكايات لا تنضب، قال توستالا، الحكايات تتجدد في كل أمسية.
2
من خلال هذا التقديم، يمهّد القاص والروائي والمترجم العراقي عبد الهادي سعدون كيف بدأ يدوّن حكاياته العشر التي جمعها في مجموعته الجديدة التي أسماها «توستالا»، وسبب اختياره هذا الاسم الذي يعني بلغة الهنود الحمر (الحكواتي).
لكن سعدون؛ على الرغم من اختياره لهذا العنوان غير العربي أولاً، والعراقي ثانياً، ومن ثمَّ فضاءات قصصه وأماكنه التي كانت في أغلبها بعيدة عن العراق؛ موطنه، إلا أنه لم يخرج من ربقة مكانه الأول، فبغداد كانت حاضرة في أغلب القصص، ومن ثمَّ كانت ثيمة الرحيل والغربة والمنفى هي المسيطرة على أغلب النصوص، إن لم يكن جميعها.
3
في كل مجموعة قصصية يسعى سعدون للاشتغال بتقنيات وآليات سردية جديدة، ورغم أن بعض هذه النصوص كانت قديمة نوعاً ما، وموازية لزمن كتابة مجموعته السابقة «انتحالات عائلة»، غير أن هناك اشتغالات اختلفت عن تلك المجموعة، «وأعتقد أن أثرها ظل في تراكم السرد العصي واللغة المشغولة بدقة كهدف أقصى للقص، كما يعرف أغلب من قرأ وكتب عن «انتحالات عائلة». ولكنني في القصص المتأخرة حاولت الاشتغال على متعة الحكي نفسه، من دون المضي بالانشغالات اللغوية، وكان السرد هو المتعة الكامنة وليس التغلغل في فهم عمق الكلمة والمعطيات في نسيج اللغة نفسها». ويضيف سعدون أنه في فترات طويلة انشغلنا بالتقنيات وباللغة والمتن المشكل لكل ذلك، وغفلنا عن (الحكاية)، متعة السرد كحكواتي والبحث عن بؤرة (السوالف) الشعبية والثرثرة المحصنة بشغف ترتيبها ترتيباً ممكناً كي تصبح في النهاية نصا وافيا.
ويشير سعدون إلى أنه بعد أن كتب هذه القصص وغيرها التي سيضمها كتاب آخر بنمط مغاير، كان يتساءل عن معنى التجديد في القصة إذا لم تتخذ لها منطلقاً من شراشيب الحكاية الشعبية والغوص في عمق الروح تلك، ولعل هذا المؤثر وهذه التقنيات داهمته لأنه في الفترة الأخيرة رجع لاهتماماته الأولية في الموروث والفلكلور والتراث الشعبي. «لا أدعي هنا أي جديد بقدر ما عليه طراوة الحكاية وصدمتها وانشغالاتها الحميمة وما يمكن أن تضيف للذائقة القرائية».
4
عرف عبد الهادي سعدون في بداية مسيرته الأدبية بأنه شاعر وقاص، غير أنه فاجأنا قبل عام من الآن بإصدار روايته الأولى «مذكرات كلب عراقي»، لكن هذا لا يثنيه عن همه الكبير في الترجمة من اللغة الإسبانية إلى العربية وبالعكس.
هذا الهم كان له تأثير كبير على نصوصه الأدبية، فالترجمة بالنسبة إليه تأتي متوازية مع الكتابة، و«أنا أشعر بقيمتها وأهميتها لي كمثقف يعيش في مجتمع ولغة وإبداع لا بد من قراءته، وبالتالي نقل ما أستطيع منه للقارئ العربي، صلتي الأساسية الأخرى.
دائماً ما أقول إن مهمة المبدع بمعرفته للغة أخرى هو أن يساهم بما يستطيع من ترجمة آداب تلك اللغة التي يتقنها، لا سيما أن مشاريع الترجمة العربية الرسمية كانت وستظل قاصرة عموماً».
ومن ثم، فسعدون يعتقد بالترجمة كمواكب حقيقي للإبداع ولا بد منه بصورة وبأخرى.
هذا بالطبع يشمل الترجمة عموماً، ولكن الحديث عن ترجمة القصة والرواية أو النثر عموماً من اللغة الإسبانية إلى العربية، التي أنجزها في عشرات الكتب بدءاً من «منتخبات من قصة أمريكا اللاتينية» وحتى آخرها رواية الإسباني بيلا ماتاس في «بارتلبي وصحبه»، قد أفادته أولاً كقارئ ومطلع على نماذج كانت وما تزال غير مرئية للقارئ العربي، ومنها أهمية نقلها والتعريف بها؛ حسبما يقول، والشيء الآخر الاستفادة منها ككاتب قصة ورواية في التمنع بما وصلت له والقفزات النوعية والتجديدية التي واكبتها خاصة في العقود الأخيرة.
«اللغة الأخرى تعلمك الالتفات والتعامل مع لغتك الأصل بالتجديد والتطوير والنحت الممكن ضمن العملية نفسها، وتسمح لك بالتنويع والصياغة الممكنة والمحتملة الدخول ضمن لغتك الأم.
عمليات سرية متداخلة تضيف لك وتغير فيك وتزيح عن غشاوة العين العديد من الخيوط التي كانت تكبلك في اللغة الواحدة. عليه أجزم بالقول إن النوم مع لغتين أفضل من النوم مع لغة واحدة، فما بالك وأنت تشعر بامتنان للأولى التي كونتك وللثانية لأنها قومت وشذبت وأضافت».
5
تنوع عبد الهادي سعدون بين الشعر والقصة والرواية والترجمة أعطاه أبعاداً مغايرة في اللغة والجملة والبناء السردي، لكنه في الوقت نفسه ربَّما أضاع بعضاً من تقنيات كل فن على حدة، إن كان منشغلاً فيه.
من المحتمل ان هذه الآراء وغيرها قد لا تعنيه هو شخصياً، فهو منهمك بمشروعه الذي يفرّغ فيه طاقاته المتنوعة، إلا أنه يؤكد أنه مشوش وغير مرتب في كتاباته ولا يضع برامج ومواعيد للكتابة، و»هذا بحد ذاته يكسب أعمالي طابع العفوية في النشر عندما يحين وقته وبدون استعجال.
وهذا ربما هو المسبب أيضاً في كتاباتي وتنقلاتي من جنس أدبي إلى آخر».
مبيناً أنه كثيراً ما تساءل شخصياً عن أسباب ذلك، ولم يجد جواباً مقنعاً بالمرة، ولعل الجواب الوافي والحقيقي لكل ذلك هو في صيغة تساؤل يطرحه ولا يجيب عليه وهو، هل هناك مانع معين لعدم الخوض بكل الأجناس الأدبية، أم هناك حدود تحد من ذلك أو مسببات تحول دون ذلك؟ «أنا لا أعرف الإجابة ولا أجد لها مكاناً عندي حتى الآن.
لو أقررنا بذلك، فإذن كيف نقرأ اليوم كتب العرب القدامى وكل واحد منهم كتب في أجناس وأصناف أدبية وفنية وعلمية مختلفة، وكلها جائزة وتروق لنا قراءتها، كما أننا لا ننظر لها كونها خارجة عن حد معين».
ويوضح سعدون أنه لا يدعي أنه يسير في هذا النهج، فالواقع أنه لم يخطط لذلك في حياته ولم يسع لذلك بقصدية، «كل ما في الأمر أنني أجد نفسي معرضا للخوض في أجناس أدبية وفنية مختلفة، وأرى نفسي فيها وإجادتي لها وإن كانت بدرجات متفاوتة وهذا متروك للقارئ والناقد.
أصدقك القول إنني عندما بدأت الكتابة في سن مبكرة كنت أجرب كتابة الشعر والقصة في آن واحد، كما كنت أعشق النقد الأدبي والدراسات، خاصة في السينما والفنون، كما واكبت كل تلك المحاولات الترجمات الأولى التي قمت بها ما أن أدركت قدرتي على ذلك.
هناك من يستوعب منا كل تلك الميزات ويضعها في جنس أدبي واحد، وهناك من يحاول التجريب في أنماط مختلفة، وأنا واحد منهم.
القصة هي معشوقتي الأولى والأخيرة، أهيم بهذا الجنس الأدبي وأتحيز له بشدة وقد كتبت ونشرت فيه الكثير وما تزال بحوزتي كتب ومشاريع أخرى. من هنا أعود بين حين وآخر لنشر كتاب جديد فيها كما عليه في توستالا اليوم مثلاً».
لكن سعدون يقول إنه كاتب يستمتع بكتابة النص المجدي من دون النظر لجنسه وفنه الأدبيين، ولعل هذه الميزة هي ما تجعله يسير بالكتابة في كل الأجناس من دون موانع معينة أو تحذيرات ممكنة.
و»من العدل أيضاً القول إنني أجد نفسي في كل ما كتبت، حتى تلك النصوص الأولى السيئة الكتابة، وإنني في المحصلة مجموع ما أكتب وما أعيش وأجرب».
صفاء ذياب