فَرسُ الليل

فَرسُ الليل

فَرسُ الليل

رميتُها بالسّهمِ حتّى ارتطم بصخرة فأوْرى نارا، ونزلتْ هي على الأرض بردا، وانتثرتْ على كثيب الرّمل الفضّيّ حبّات من الدّم الحارّ. جذبتُ السّهم من بين شقّيْ الصّخرة بما تبقّى من قوّتي، تلألأ حنّاءً، فأعدته إلى الكنانةِ. وهويتُ على الجسد المستسلم الذّي مازال يصدر أنّاتٍ مكتومةً. نزعتُ ردائي. بسطته على الرّمل ثمّ سجّيتها فوقه وكسوتها بعمامتي الخضراء. كان لها ارتفاع مستحسن في أعلى قصبة الأنف ما إن لمحته حتّى أدركتُ ما حصل، ضغطتُ على رأسي متسائلا: أحقّا مال عليّ الوسواسُ وقمتُ بعمل أخرق؟
نزّ عَرَقٌ باردٌ من كامل جسمي ولم أعد أقوى على التّنفّس، كانت الرّيح شنعاء، تعصف بداخلي، تُتَعْتِعُني، ولفّني وجوم طاحن، جُنّ الكلام. انهرتُ، فتلقّفني صدرها، كأنّها تسندني رغم حيوانيتي، التهمتني الذّكرياتُ: سكون وحركة، أرغفة من تراب، رؤى تتناطح، ديك ينزو على قرصان، تهوّراتي تمرّ أمامي واحدة واحدة، دختُ، فبدا لي كثيب الرّمل حالكا والسّماء مجموعة ستائر تنسدل على أفقي، تُحرّكها جَنوبٌ شبّت كالنّار في تلابيبي وواجهتيْ شعري. رنوتُ إلى واحدة منها فرأيت صورة أوّل لقاء. يا اللّعنة، جسمي بات كوخا تئزّ فيه الرّيح، يا لروعة الصّورة: خصرها مضيق ونصفاها جنان، ضاع منّي الطّريق. شوّك جسمي، ضاق الفضاء ودُكّت عظامي.
عُدْت أتحسّس السّهم. ربّما كانت عيناي تتراقصان وليس عليه دم، ومهرة اللّيل ربّما تنام في هدوء بعد طول جموح، عجيب، ما أقرب الرّدى الآن فقط فهمتُ قصد والدي حين كنت غلاما وكنّا نتعشّى معا، كان يسألني كلّما اقتربتْ ملعقةُ الكسكسي من فمي: «أيّهما أقرب إليك، ملعقتك هذه أم الموت؟» وكنت أجيب بصوت طفوليّ: «طبعا ملعقتي». عندها يزمّ شفتيه وينطق: «كفرتَ ورأس أمّك».
موغل خلف المساء، داهمتني السّنون التّي قضّيتها في ترويض مهرتي النّافرة، ورود العين، الخصام، الوشايات، ألقابي البدويّة التّي كانت تُعَيِّرني بها والتّي ما عادت تحرجني، سحنتي المتحوّلة، إلى آخر قصص العشق التّي طوّحتْ بنا بعيدا حتّى صرنا من هواة جمع الحلزون تحت اللّيالي الماطرة.
لوثة أخرى تصيب عقلي، في الأوّل هجم الموت سريعا، والآن يعود الماضي برمشة عين، كانت عيناي تخترقان حجب الظّلام الذّي لفّني بحثا عن أيّ شيء، ربّما كانتا مزروعتين في الفوضى أو ترحلان في كهوف وتجاعيد الماضي المبعثر هذا الذّي بدأ مع أوّل سحاب نوء جاب برّيتي. تسارعت حبّات المطر على وجهي منداحة سريعا كالأفراح، مخلّفة مسارب حلزونيّة تذكّرني بالقلادات التّي كنت أصنعها من القواقع وأحيط بها عنق مهرة اللّيل قبل أن تجمح، هل أرقص الآن في خراب؟ كم أتذكّر، كم تُميتني الذّكرياتُ الرّاعفة! لو يغادرني الوقار فأضجّ وأعود مسبحا بأسرار الحياة. أتذكّر جيّدا كيف شكّتني العينان الجميلتان وأحرقتا روحي، أحسست يومها برغبة تدفعني إلى الغناء والرّسم. كانت تغمز لصديقتها: «مازال الفتى على السّليقة». أعجبني تجبّرها فأطلقت شدوي: «مازلت طفلا، أستاء سريعا، فاغمريني بمياه دفئك. وقدّمي اعتذاراتك، قدّميك لي مواويلَ، عسى أن أفرح فأعود ألهو بالشّعر الرّمليّ طويلاَ».
ربّما هي نبوءات العرّافين تحقّقت، فها هو الشَّعْر الرّمليّ على الكثيب بين أصابعي، من يمنعه عنّي؟ يا للتّجبّر الزّائف، أين القهقهة التّي كانت تُميتني، والفم المدوّر وكواكبه، أين؟ تفنّنتْ بعد جموحها في ترتيبي، وانتظمنا حالةَ عشق لا تُردّ، حوّلتني إلى معجم استعارات، وطافت بي بين منازل القمر. في بعض اللّيالي، حين يغزوني الشّيطان، أسهّرها حتّى بزوغ نجمة الصّبح، كانت تتبرّم أحيانا فتذكّرني ببداوتي الفاضحة: «يا آخر البدو، من سلّطك عليّ، يا آبن الحافية ما أقبحك؟…إنّي لأستدلّ بقبحك على جمالي». إلاّ أنّني كنت لا أعبأ بما تقوله في شأني فأعود إلى الدّحم فتعود إلى الدّلال:«أيّ ثور أنتَ؟…أظنّ أنّ إبليس ينفخ فيكَ». تلك كانت غرائبيتنا حتّى آخر جموح لها حيث ضلّت يوم ضجّت.
جلدتني نسمات الفجر الأوّل. تحسّست وجهي. كان عليه غشاء من الدّموع والغبار، غارت الصّورة المعلّقة شرق السّماء. قفزتُ كالملسوع أبغي إيقاظها من سباته، وتذكّرتُ. انزلقت يداي على جسدها البديع المرتّب كأبهى ما يكون، انحدرت عيناي وقد غامتا إلى كثيب الرّمل المتلبّد، انكسر عمود بداخلي، قمت متثاقلا. لملمتُ الجسدَ الباردَ، هذا النّجم الذّي يهدي قوافلي إلى مناطق الأوبة الآمنة، وضعته أمامي وخررت ساجدا ثمّ حملت سوءتي على ظهري وتهت في البراري متهجّيا أهازيج قديمة من عصور الانحطاط أو هي أقدم تاريخا.
كاتب من تونس
عمّار العوني
كأنك تشكو الما فتزرع فينا الماضي يريحنا من بعض الألم. ….هي رائعة حد البكاء حد الصراخ حد الألم. …سلمت يداك استاذي
نص جميل ، للشرود فيه منطق وللتّداعي تماسك … ربّما سكن التاريخ الكيان فتجسّم ظاهرا في باطن او ربّما العكس ، والعكس ليس دوما صحيحا … الذّكريات تستبدّ بنا تارة ، فتقطع شعرة الاتصال وترمي بنا في واقع من خيال .. لكانّنا صرنا حقّا مزدوجي التركيبة تتعايش فينا عواطفنا المتلاطمة ولا ندري ذات فكرة او لحظة من اي الارجاء تصدر اقوالنا او باي منطق نأتي افعالنا . دمت مبدعا استاذنا الجليل

m2pack.biz