‘قارعة الذات’ للكاتب السوداني عمر الفاروق نور الدائم التاريخ انحراف مقصود عن جادة الزمكان

‘قارعة الذات’ للكاتب السوداني عمر الفاروق نور الدائم.. التاريخ انحراف مقصود عن جادة الزمكان

‘قارعة الذات’ للكاتب السوداني عمر الفاروق نور الدائم.. التاريخ انحراف مقصود عن جادة الزمكان

تبدو رواية ‘قارعة الذات’ كلوحة فسيفسائية ضربتها عوامل الزمن وحركة تكتونية كالمخاض الذي يسبق الولادة، فانفجرت على مساحات الاعتراف التي يسجلها الروائي السوداني عمر الفاروق نور الدائم على ألسنة شخصياته في محاولة منه لنيل الاعتراف منها بأنّ التأريخ ضرورة حتمية لفهم الحاضر إلا أنّ هذه الشخصيات تلاعبه كحكواتي يأخذ جمهوره المستمع والمستمتع بالقصّ في أيّة جهة يريد والمستمعون الذين يعرفون القصة بتمامها منجذبون لهذه الانحرافات، فهي تشبه ما حدث لهم إذ أنّ التاريخ هو انحراف مقصود عن جادة الزمان والمكان.
يعاين السرد لحظة أسطورية حيث يعود الزمن للحظة العماء، فتسقط القوانين والأعراف والحرمات، ويختلط الماء الفرات بالماء الأجاج، فلا يتميز ضوء النهار من عتمة الليل، فالكلّ قد أصابه العمى وينتظر لحظة الولادة ليبصر من جديد ويولد الكون من جديد من لحظة العماء السردية التي اختطها السارد تارة على لسان ياسين وتارة على لسان بنت خميس أو شرف أو رانية مع شخصيات أخرى تتصل وتنفصل عن شخصية ياسين المحور الرأسي للرواية حيث الشخصيات الأخرى تنجز المحور الأفقي ليرتسم بينهما خط السرد الذي ينوس كرقاص ساعة نفضت عنها عقاربها أو منارة تبتلعها الأمواج العاتية لتخرج للحظات تستنشق الضوء وتغرق في الظلمة من جديد.
اللوحة الفسيفسائية:
يترك الروائي عمر الفاروق مساحة مهمة للقارئ وكأنّه ينجيه من نير الأقدار التي تسوط شخصيات روايته وهو إذ يفعل ذلك يورط القارئ بالسرد، فلا يستطيع أن يدعي أنّه مجرد مستمع لتلك الاعترافات، فهو الباحث كشخصية السارد المضمر عن هذا التاريخ الذي انبثق من الحاضر كأنّه توأمه وذلك، سواء على لسان ياسين وتداعي السرد الذاتي أو رانية، فهو يعلم تمام العلم أنّ الاعترافات والبوح الجريء والصادم على لسان تلك الشخصيات التي لم تترك لأحد هتك أسرار حجبها بل بادرت هي لهتك هذه الحجب ما هي إلا لعبة تخفي الكثير إذ الاعتراف يحتاج للقرائن وأية قرائن في بلاد تتعامل مع تاريخها كما يتعامل فيضان النيل مع ضفافه كل سنة.
مهمة القارئ أن يعيد قطع هذه اللوحة مع أنصبتها الإرثية إلى مكانها بقدر أقل من الاحتمالات، فهذا البلد الذي يتشكل من مزيج من الأزمة سواء الأسطوري منها أو الواقعي والأمكنة التي تشي بفروق تكاد تشق صدر البلاد لتخرج قلوباً بدلا من قلب واحد كقبضة تجمع البلاد في كفّ واحدة، فإعادة هذه القطع لتشكل اللوحة تنجز ما يرغبه ياسين وهو يصر على رأيه بأن يتركه سامعه ويزهد بحكاية التاريخ ويلتفت للحاضر، فحي المواسير الذي جمع الشاذين من كلّ حدب وصوب هو نسخة مصغرة للبلد، أنّه السوق الذي تباع به الأرواح والأجساد.
إصرار ياسين هو أن يشغل الرغبة في وجدان متلقيه، يسدل الستار لكنّه يتركه للريح تلعب به وتكشف عن ساق الألم والرغبة والحقيقة والوهم بالتخلص من كون الناس عملة في السوق.
كسر التابو:
لم يكن قصد السارد الإيغال في كشف عورات حي السوق بحثا عن إثارة مجانية رخيصة، فهو وفق منظومة العماء التي لحظتها الحالة السردية تشي باختلاط كل شيء مع بعضه البعض، فتسقط الحرمات ويسرح أولاد السفاح في الطرقات ويتأنث الرجال إذ بالجانب الآخر تقف الحرب الأهلية والتي تعني من اسمها حرب الأهل مع الأهل، حيث يصبح الأب طريد ابنه والأخت شهوة للأخ والغرائزية سمّة وبوصلة ومع ذلك نجد تلك الشخصيات تحتمي بلغة عالية المستوى تشي بفهمها العميق لهذا المعترك التي سقطت به ورغبة مضمرة تظهر برغبة العاهرة رانيا بأن تطلق ياسين من ربقها لكي يدون تأريخ حي السوق، فبدون تاريخ صريح وكاشف لن نفهم رغبة نهر النيل بأن يعيد تشكيل الضفاف كل سنة بفيضان عارم يعيد الأرض لبدئها لكنه يهدم المعمار، هذه المراوحة في المكان لا تقيم تاريخا بل اللاتاريخ حيث لا تنفع الأسماء والأفعال أو الشخصيات.
ومن هذه الحالة السابقة نفهم رغبة عمر الفاروق بأن يختلط السرد لديه، فتتداخل الأصوات وتندمج حيث تصبح كل شخصية هي امتداد وتوأمة للشخصيات الأخرى وهنا يظهر دور القارئ الذي أنيط به فك الاشتباك مع ذلك اللاتاريخ ليظهر التاريخ عبر اكتمال اللوحة الفسيفسائية المتبعثرة على جسد السرد الروائي.
قارعة الذات:
القارعة يوم القيامة، التقريع تأنيب الذات، القرع الضرب على الأبواب لتفتح، القارعة زاوية الطريق والمفترق حيث من الممكن تحديد الوجهة وتصويب الخطوات.
إنّها رواية تحلم ببوصلة لتحدد الاتجاه تخرج من فوضى التجاذبات الكهرومغناطيسية إلى حقل جديد يرتب إمكانية البناء عليه، إمكانية الاهتداء إلى عمارة حقيقة لهذا الكائن الذي يُدعى الإنسان الذي هو خليفة الإله على هذه الأرض.
رواية تحكي السودان، الخرطوم من قدميها.
*’قارعة الذات’ للروائي السوداني عمر الفاروق نور الدائم صادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون لعام 2013
Bassemsso91@gmail.com

m2pack.biz