قصة: الفزاعة التي جعلت جدي يتلاشى بين السنابل
تشبثت بالصمت، وآثرت عدم الانحياز، وأنا بعيد عن حمى اللجاج بين أخي الأصغر وجدي؛ متفرجاً على هذه الزوبعة؛ حتى لا أخسر ودَّ جدي وحبه الكبير لي. وقال جدي وهو يقطب جبينه في رباطة جأش زعيم مغرور، وموجهاً كلامه لي: تلك الطيور المهاجمة من الشمال أضرت بمحصولنا وغلالنا كثيراً؛ لذا قررنا نصب فزاعة وسط الحقل؛ تخويفاً لها وطرداً.
وهنا انتفض أخي، وهو يلوّح بسبابته، بعدما انتصب واقفاً كنخلة: قل يا جدي قررت، وليس قررنا، فالفزاعة فقدت هيبتها في هذا الزمان، بعد أن كشفت سرها الطيور، وعلينا البحث عن أدوات جديدة.
كان الهواء المشبع برائحة البراري يتحرك وئيداً، مثل حلزون مريض؛ ليدفع السنابل إلى التهامس مع بعضها البعض، بينما أسراب الطيور الجائعة آتية من الشمال غازية حقولنا، وجدي لازال غارقاً في جداله العقيم مع أخي، وتذكرت ما قاله لي أستاذي ذات يوم شتائي غاضب: إننا نحن العرب، ظاهرة صوتية من الدرجة الممتازة.
تحركت شفتا جدي الممطوطتان بقوة، بعدما أحس بصعوبة إقناع أخي بمشروعه؛ ليجمع الحروف المبعثرة في حلقه، وقد امتلأ غضباً: «ما هذه الرعونة…فين لحيا…اللي فاتك بليلة فاتك بحيلة.. قلت لك سننصب فزاعة سننصب فزاعة…».
وحضرتني فكرة ارتباط ظهور الفزاعة بالحضارة الفرعونية، وفرعونية جدي الآن، وتملكتني رغبة في الضحك، فخفت من سخطه؛ فاكتفيت بالموافقة على كلام أخي بحركة من رأسي، وكان جدي يغرس نظراته الحادة فينا، والشرر يتطاير من عينيه الواهنتين، ونصب فزاعته وسط الحقل.
التحدي
كانت فزاعة جدي مبسوطة الذراعين كتمثال بليد، وقرفص جدي قربها منتظراً كسب التحدي وهجرة الطيور، وتحلقنا بدورنا حوله، في لحظة ران فيها الصمت على المكان، واستفاقت العيون على جيوش أخرى من الطيور تتقاطر على الحقل، وعلى جدي، وهو يتلاشى بين سنابل القمح، بعدما مسح العرق الذي أغرق وجهه، وعلى أخي؛ مستلقياً على قفاه من شدة الضحك.. واكتفيت أنا بتشييع جدي بنظرات حزينة، بينما الطيور الزاحفة من الشمال ارتفعت ترانيمها من على ذراعي الفزاعة لبطانتها وأخرى اتخذت من رأسها برجاً لمراقبة جدي، خدمة لصقور أخرى قد تأتي لاحتلال ما تبقى من الحقل….