كلامُ الحبِ والوجودِ وَالوَطَن

( الى سارة عارف – طه ) لَسْتُ أَعْمَى، لَكِنَّ فُرَصَ العُمْرِ، الَّتِي لا تَجِيءُ سِوَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ، تَفُوتُنِي دوماً ،
تُهَرْوِلُ مِنْ أَمَامَي دُونَ أَنْ أَرَاهَا
قَبْلَ خَمْسِينَ عَامًّا رَمَيْتُ قَارُورَةَ زُجَاجٍ فِي البَحْرِ ، تَحْوِي كَلِمَة وَاحِدَة :
– أُحِبُّك.
مَا زِلْتُ عَندَ الشَاطِئِ مُنْتَظِراً الجَوَاب.
جئْتُ قَبْلَ الأَوَانِ.
لَنْ أَلْبَثَ طَوِيلا عَلَى الأَرْضِ.
الحَيَاةُ لَيْسَتْ مُهَيَّأَةً لِي عَلَى نَحْوٍ لائِق.
لا يوجدُ ما هُوَ أكَثَّرُ لَذَّةً مِن الكُتُبِ وَالكُحُولِ والسيغاريلا وَالنِسَاء.
لكن هَذَا لا يَكْفِي.
أُرِيدُ ان أحوز كُلَّ شَيْءٍ ،
لأَعْرِفَ مَاذَا احْتَاجُ وَاخْتَارُ.
أُرِيدُ انْ أَكُونَ كُلَّ شَخْصٍ ،
لأَعْرِفَ مَنْ أَنَا.
أُرِيدُ انْ أَكُونَ كُلَّ مَكَانٍ ،
لأَعْرِفَ أَيْنَ أَنَا.
أُرِيدُ انْ أَكُونَ كُلَّ وَقْتٍ (اعْنِي مُنْذُ الاِنْفِجَارِ العَظِيمِ)
لأَعْرِفَ لِمَّ انا … كَائِنٌ.
مَكَانَي الأَوَّلُ هُوَ العَدَمُ : لا شَيء.
مَكَانِي الأَخِيرُ هُوَ العَدَمُ : لا شَيء.
يَرْبُطُ بَيْنَ الأثنين الشَبِيهَيْنِ حَاضِرٌ مُضْحِكٌ مُفَجِّعُ مِن الأخطاء والخيباتِ والفشل.
أَذُودُ عَنْ الوَطَنِ، كَذَوْدِ جِدِّي عَنْ الكَهْفِ.
أَذُودُ عَنْ الوَطَنِ كَذَوْدِ اللَيْثِ عَنْ العَرِينِ، وَالذِئْبِ عَنْ الوَجرِ، وَالنَحْلِ عَنْ القَفِيرِ،
وَالنَمْلِ عَنْ ثُقُبٍ فِي الأَرْضِ.
أَذُودُ عَنْ الوَطَنِ كَذَوْدِ عَجُوزٍ عَنْ مَقْعَدِ ذِكْرَيَاتٍ فِي مَقْهًى قَدِيم.
لَكِنْ الواقعَ مُبْرِحٌ جداً.
هَا هُمْ يُدَمِّرُونَ الوَطَنَ (وَطَنُهُمْ) بِالتَواطُؤِ مَعَ البَرَابِرَةِ الغُزَاةِ.
هَا هُمْ يُحَوِّلُونَ الوَطَنَ (وَطَنُهُمْ) إِلَى وَكْرِ لُصُوصٍ وَعِصَابَاتٍ وخرائبَ وَدُخَانٍ وَدُمُوع.
وهَا أَنَا ذَا الشَيْخُ المَرِيضُ، أَقُولُ لَكُمْ :
مَرْحَبًا بِالخَرَفِ مادام سَيَفْصِلُنِي عَنْ هَذَا الوَاقِعِ القَبيح.
أَضَعُ الحَقَائِقَ فِي كَلِمَاتٍ عَابِرَةٍ.
وَفِي الحَانَاتِ أَمْزُجُ (واشربُ) فِي كَأْسٍ قَلِيلا مِنْ الفَرَحِ مَعَ كَثِيرٍ مِنْ الحُزْنِ،
ثُمَّ أَعودُ إِلَى دَاخِلَ ذَاتِي،
بَيْنَمَا يَفْتِشُ عَنِّيَّ الآخَرُونَ خَارِجَهَا .
إمضِ في الاِتِّجَاهِ المُعَاكِسِ.
لا تَنْظُرْ أَبْعَدَ مِنْ أَنْفِكَ.
لا تُفَكِّرْ بِأَكْثَرَ مِنْ خُطْوَةٍ.
لا تَنْدَم قطْ على ما فات (كانت تنصحنا امي).
لا تُحِبْ (خصوصاً إن كنتَ هَشَّ الفُؤَاد).
وَحِينَمَا تَنْجَحُ أَوْ تَحْزَنُ او تَمْرَضُ أَوْ تَغْضَبُ، تَفَادَ إِثَارَةَ الاِنْتِبَاهِ.
لا تَتَفَلْسَفْ.
خُذْ نَفْسًا عَمِيقًا وَأَسْكُتْ .
مَا أَحْلَى المَاضِي ، كما يبدو الان.
زَمَنٌ مُجَرَّدٌ مِنْ التَوَتُّرِ وَالقَلَقِ وَالخَوْفِ.
زَمَنٌ رَاسِخٌ وَآمن.
«حَتَّى المُسْتَقْبَلُ كَانَ أَحْلَى فِي المَاضِي»
أديب عراقي مقيم في لندن
محمود البياتي