كيف لا نعرف مَنْ نعرفه؟
المعرفة! معرفة الآخر؟ ما أخطرها من كلمة. مَنْ يعرف مَنْ؟ لا أحد بالتأكيد، حتى ولا أُمّهاتنا. مَنْ يجرؤ على ادّعاء معرفة «مَنْ يعرفهم»، إذاً، سوى المغفَّلين؟ لكن اللَّغْو كثير. وهو ليس علامة معرفة، وإنما سمة جَهْل مخيف. «اللَّغو»، أو التحدث بشكل يستثير المشاعر البدائية، واللجوء إلى «كليشيهات»، أو تعابير محددة، أو سلوكات غير منتظرة، هو اختزال للكائن الذي نحسب أننا نعرفه، ونحن نجهل، في الحقيقة، كل شيء عنه. عن «تاريخه الشخصيّ» الذي لا يُفَرِّط هو فيه، ونحن، ربما، لا يهمّنا منه شيئاً. وتلك هي نقطة الافتراق الذي لا لقاء بعده.
معرفتنا لمَنْ نحب، ليست هي صورته في نفوسنا. ولا هي وقائع حياته مهما بدت لنا مثيرة وغريبة. ولا هي، أيضاً، كلماتنا «المنْتَقاة» عنه، مهما رَصَّعْناها بمشاعرنا التي يستدعيها ظرف الكلام حوله. إنها « شيء» آخر ينبثق من تطوّر علاقتنا العميقة به، حتى لنحسبه منا وهو بعيد. وهي أبعد ما تكون عن أحداث مشهدية رافقت، أو ترافقت، مع حقبة لقائنا معه، مهما كانت طويلة، وعنيفة.
نحن لا نستقبله. وهو لا يمنحنا نفسه. والخَلْطُ بيننا وبينه مثل خَلْط التراب بالتبْر. وهو خَلْط يسمح لكل عنصر أن يبقى على حاله. ويسَهِّل فصلهما بشكل نهائيّ وكامل منذ أن يستوجب الظرف ذلك.
هذا لا يمنع، بالطبع، أن يعبِّر أي أحد عن رأيه في أحد آخر، مهما كانت طبيعة التعبير، ونواياه، وأغراضه، ونوعيته. لكننا لسنا في صدد الدفاع عن «الحق في التعبير عن المشاعر»، وإنما في صدد «إدّعاء المعرفة»، وبينهما فرق شاسع. ثُمّ، مَنْ أعطانا الحقّ في أن «نؤطِّر» كائناً «هامَشْناه»، لئلاّ نقول «عايشْناه»، حقبة؟ وكيف نسمح لأنفسنا أن نخلط بين «جوهر الكائن» الذي نزعم أننا نُثَمِّنه، وبين «قُشور» السلوك العابر، حتى وإن لم يكن هذا السلوك بريئاً، أو خالياً من المعنى. وكيف لنا أن نقبل زعم «المؤطِّر»، وقد أثبت التاريخ، أنه لا علاقة له بالتاريخ. ب «التاريخ الشخصيّ» لمن صار اليوم يتمادى في «تأْطيره»، عَبْر الكتابة عنه، أو التحدّث حوله، أو الثرثرة بصدده.
معرفتنا بالآخر ليست «صورية». ليست هي صورتنا عنه، ولا هي صورته هو عن نفسه، حتى ولو أصرَّ على ذلك. وإنما هي وعينا نحن، أولاً، بأنفسنا، بوضعنا التاريخيّ، ومن ثمّ بالآخر. بتصوّرنا النقدي المستمرّ عنه، وعنا، معاً، وفي الوقت نفسه. لا نرى ما يراه، فهذا طبيعيّ. ولا نحبّ ما يحبّ فهذا أيضاً طبيعيّ. ولا نتمنّى ما يتمنّاه، لأن ذلك مناقض لمنطق التاريخ. ولا هدفنا هو هدفه نفسه، وإلا اختلّ التواصل بيننا. لكننا نهتَمّ بكل ما يصدر عنه، وهو يُبادِلنا هذا الشعور، دون أي تنازل، أو استعلاء، ولكن بشكل نقديّ جازم.
إنه نحن. ومستقبلنا هو مستقبله. تصوُّرنا للوجود الذي انطلق من نقطتين مختلفتين، صار ينظر في اتجاه واحد، منذ أن عرفناه، مع احتفاظ كل واحد منا بتاريخه الخاص. لا يذوب أحدنا في الآخر، وإنما يساعده على الاستقلال. يأخذ من حريته ويعطي لنا، والعكس ليس صحيحاً. هذا كله يختلف عن المعرفة الشكلية، معرفة «الحدوّتة» المبتذلة، التي لا ترى «جوهر الكائن»، ولا تدرك إمكانيات تطوُّره اللاحق، الذي هو أساس وجوده، ووجودنا، ربما. «أنا لا أعرف أحداً»! كما تقول «سلوى»، وهو ما يجعلني أطمئنّ، مؤقتاً، على «تاريخي القميء».
كاتب سوري
خليل النعيمي