لغز السعادة في معرض سام فرنسيس بلندن
لا تقيم “غاليري برنارد جاكوبسن” في #لندن إلا معارض من طراز خاص. ذاكرة منسقي المعارض في هذه الصالة منحازة إلى لحظات تاريخية تقع خارج الوعي الجمعي الذي كرّس ظاهرة المدارس والأساليب والتيارات الفنية التي صارت متاحة شعبياً بسبب تكريسها الإعلامي. معرض الأميركي سام فرنسيس (1923 – 1994) الذي يقام حاليا هو جزء من تلك المحاولة التي تهتم بالفردي، بغنائه الذي ينزلق بين الأساليب ليجمع بين رؤى مختلفة خالقاً فضاء تصويريا يقع في الخارج دائماً من حيث عدم قدرة الداخل على احتوائه.
فرنسيس الذي نجح في أن يجمع الفرنسي كلود مونيه والأميركي جاكسون بولوك إلى مائدة واحدة، تعبّر رسومه عن سعادته بالرسم حلاً لمشكلات وجودية. فبعدما خدم طياراً في الحرب العالمية الثانية اتجه إلى دراسة الرسم في جامعة كاليفورنيا ومنها انتقل إلى باريس (جامعة فرنان ليجيه). هناك كان على موعد مع مانيه في متحف “أورسي”. وهبته رحلاته إلى اليابان مزاجاً شرقياً. لكن المدهش في سيرة هذا الرسام أنه أقام 113 معرضاً شخصياً أثناء حياته، أما المعارض التي أقيمت لرسومه بعد وفاته فقد بلغ عددها 90 معرضاً، ولهذا يمكن العثور على لوحاته في معظم متاحف العالم الرئيسية. إنه فنان منتشر على الرغم من أن صفة “تجريدي” قد لا تعبّر عنه تماماً.
يحصر سام فرنسيس الوجود الإنساني في الرسم. هناك يبدأ وينتهي كل شيء. ولكن ما هو ذلك ال”كل شيء”؟ بالنسبة إلى رسام متعوي مثل فرنسيس، يده لا تنصت إلى عينه مثلما كان يفعل مونيه، وفي المقابل فإن خيال يده لا يستلهم حركة جسده كما كان بولوك يفعل مشاكساً. من غير انفعال أو توتر، تترك يد فرنسيس أثراً مترفاً ورخياً يذكّر بمرورها. ما من شيء ينتمي إلى العبث. كل شيء في مكانه، وهذا ما يؤكد أن الرسام عاش أوقاتاً طويلة من التأمل لكي يصل إلى نتائجه التصويرية. هي نتائج تصل بنا إلى أقصى ما يمكن أن يظهر من مشاعر تجريدية كالحب والسعادة والألم.
شخصياً شعرتُ بالسعادة وأنا أتنقل ببطء بين لوحات المعرض. سعادة الرسام التي تعدي، وسعادتي التي حملتها معي إلى البيت. هذا رسام يمكنه أن يشاركك حياتك الشخصية. يمكنك أن تراه لصاً وقد استل خيوط حكايته من يومياتك الخفية. وفي الوقت نفسه يضبط إيقاع خطواتك على العشب في الحديقة المجاورة. إنه رسّام كل العواطف التي لا ترغب في أن تظهر علانيةً، على الرغم من أن شيئاً صغيراً منها يمكن أن يُحدث انقلاباً في طريقة النظر إلى العالم. وهذا ما يخيف في رسومه.
لن نرى أشياء كثيرة في رسوم سام فرنسيس. لا يحتاج المرء إلى أن يرى سعادته بقدر ما يرغب في إخفائها. ما فعله فرنسيس أنه نشر سعادته على الملأ. رسومه تدعو الآخرين إلى خوض غمار تجربة مختلفة. تجربة يفتح المرء ذراعيه على وسعهما لاحتضان العالم. تهبنا رسومه فرصة استعراض مشاعرنا التجريدية كما لو أنها كائنات تمشي بنا إلى خيالها. نُحب ونُسعد ونتألق نسمو ونحلق مأخوذين بكرم الطبيعة.
خرجتُ من معرض سام فرنسيس حاملاً لغزاً سأجد مفاتيحه في عاداتي اليومية. إنه لغز السعادة.