لقاء متأخر

لقاء متأخر

لقاء متأخر

كان يمشي على الرصيف حينما أبصر سائحة شقراء تمشي على الرصيف المحاذي. لاحقها بعينيه. كانت تخطو بتؤدة، بلا تردد أو توثر، هادئة، واثقة كأنها تمشي في حديقة بيتها.
رأسها عال وعيناها تتطلعان بعيدا، فلا تلتفت يمينا أو شمالا، لذلك لم تره وهو يقفز فجأة ليسير على بعد خطوتين منها. وظل يدنو شيئا فشيئا حتى التصق بها. رفعت إليه بصرها وابتسمت دون أن تسأله عن شيء. تراجع قليلا، وهي أمامه ترنو إليه صامتة. لم ترتبك، ولم تتكلم، فبادر بقدر غير قليل من اللباقة وقال لها :
أدعوك إذا سمحت لتشربي معي قهوة.
ردت دون تفكير :
لكنني لا أعرفك، قدم لي نفسك.
أنا تودة.
أنا جاكي من بريطانيا، وأنت .. مغربي؟
أجل.
حسنا.
ومدت يدها لتحيته. بدا مسرورا، وتطلع إلى وجهها كأنما ليتأكد أنها وافقت على مرافقته بالفعل، وسار بجانبها وهما يتبادلان الحديث حول أجواء المدينة، وأسوارها، وأسواقها، وحركة الشوارع فيها، إلى أن اقتربا من مقهى مطلة على ساحة شاسعة تتوسطها نافورة مغمورة بالمياه، فاتفقا على أن يجلسا بها. واصلت جاكي حديثها بحماس عن المدينة التي بدت منبهرة بها، لكنه لم يمهلها طويلا، فسرعان ما قاطعها متسائلا :
جاكي .. هل تعرفين ماذا أريد منك؟
تغير لونها:
ماذا؟
تردد برهة وقال :
أريد قلبك.
تماسكت، وردت بهدوء :
ماذا تقصد.. أن أحبك ؟
أضاءت عيناه وهو يقول :
أجل :
ابتسمت قائلة :
لا بأس.
وأطرقت مفكرة، ثم أردفت دون أن تتغير نبرة صوتها :
طيب، ستصبح بطلا يا صديقي إذا استطعت زيارتي في بريطانيا، نلتقي هناك إذا كنت صادقا، لكنني أخشى أن تكذب علي، وأن يكون غرضك ليس هو قلبي، بل أن تغادر إلى الخارج من أجل المال.
اهتز بمقعده وقال :
أنا في حاجة إلى من يحبني.. لا غير.
خفضت بصرها وصمتت. حاول تودة أن يستدرجها بلطف لأن تتابع حديثها عن المدينة التي أدرك أنها انبهرت بها فلم يفلح. ظلت تصغي إليه من غير أن تنطق بكلمة. من وقت لآخر كانت تحرك شفيتها ببطء كما لو لتتكلم، لكنها تتراجع.
ثم انتفضت دون توقع كأنما لم تجد مبررا لصمتها وقررت أن تصارحه قائلة :
اسمع يا تودة .
ماذا ؟
أنا سبق لي أن التقيت قبلك برجل هو أيضا أراد قلبي وقال لي إنه لا يريد شيئا سوى أن أحبه.
بدا مفزوعا وهو يسألها:
هل هو أيضا مغربي؟
أجابته فورا :
لا أظن.
وماذا حدث؟
أجابته متأسفة:
ما حدث يا صديقي سيىء للغاية، وهو أن الرجل خانني خلال أيام قليلة بعد لقائنا، واكتشفت أنه لا يستحق مني شيئا، لحسن الحظ كنا في البداية فتخليت عنه في الحين.
ارتجفت أطرافه. ترنح بمكانه وسعل كثيرا، ثم خاطبها بصوت من يدفع عنه تهمة وجهت له عن باطل :
تأكدي أنني لن أفعل مثله.
حدقت فيه طويلا. هل ظن أنها امرأة يخونها الرجال؟ إذا كان الأمر كذلك فلا شك أنه سيشفق عليها. انقبضت وعادت لصمتها. كان ينظر إليها دون أن يكلمها، إلى أن تنهدت وقالت بثقة:
على كل حال، إن الأشجار تعرف بثمارها، نلتقي، وبعد ذلك سيعرف كل واحد منا حقيقة الآخر.
بعد دقائق سلمته رقم هاتفها وودعته. استرخى بمقعده وراح يرنو بهدوء إلى السماء الممتدة أمام عينيه. ربما بدأ الرحلة الآن في خياله، فركب الطائرة وقطع المسافة التي تفصله عنها في وقت وجيز، ثم التقى بها فرحبت به على نحو رائق، وحملته في سيارة فارهة إلى أبعد مقهى، ثم أخذ كأس قهوى بنكهة مختلفة، وراح ينصت لألوان الأغاني الهادئة التي لا ضوضاء فيها، إلى أن اهتز فجأة وجعل يفكر (كان جادا)، ثم بدا كما لو أنه اقتنع بأن يحشر نفسه بين الراكبين الذين يعبرون البحر سرا، فلم يتأخر برهة واحدة، واتصل على الفور بمالك المركب الذي وافق بلا تردد. وذات ليلة أسلم نفسه للظلام، ولم يتحرك حتى غادر الماء ولاحت له أنوار النهار، ففتح عينيه في شارع غائم لا يعرف فيه أحدا. هاتف جاكي. كلمها بصوت بائس مرهق، وظل واقفا بمكانه إلى أن حضرت. كانت متأنقة ويدها في يد رجل قدمته إليه قائلة إنه خطيبها الجديد. تنهد، وهنأها، ثم ابتعد عنها وأخذ الطريق ليطوف المدينة، حتى إذا ما حان المساء، قعد قرب جدار سميك، وحنى رأسه، وراح يدندن بصوت خافت.
*كاتب من المغرب
محمد غرناط

m2pack.biz