لوحاته في «بيت ديفونشاير» اختفت ل71 عاما قبل العثور عليها… الشخصية والفراغ في «بورتريهات» الإيرلندي جيمس لودر
يعتبر «البورتريه الفوتوغرافي» من الفنون الأكثر ممارسة منذ بدايات التصوير في أواسط القرن التاسع عشر. وقد استطاع أخذ مكانة عالية فنيا واجتماعيا وحتى اقتصاديا، حيث صار هذا الفن مطلوبا في أوساط الارستقراطيين والطبقة الحاكمة في أوروبا وأمريكا، لتصوير أفرادها صورا شخصية رسمية أو جمالية، بدلا من رسمهم كما كان شائعا قبل نشأة التصوير الفوتوغرافي.
لتصوير «البورتريه» عدة مقومات ومعطيات بصرية، ويتراوح الحيز البصري ما بين تلك التي يمكن أن توصف بالنصفية، حيث يظهر أعلى الصدر مع الوجه في الكادر البصري للصورة، أو تلك ممتلئة الكادر «كلوز آب» حيث يظهر الوجه فقط، وما بين تلك التي قد تكون أوسع من ذلك لتشمل كامل الجسد، سواء جلوسا أو وقوفا، أوبأي وضعية كانت طالما أن الصورة تظهر هُوية الشخص، سواء كانت هُوية شخصية، أو ثقافية، أو مهنية، أو اعتبارية، وكذلك قد يكون التصوير داخل ستوديو أو يكون في الخارج.
في عام 1880، ذاع صيت المصور الإيرلندي جيمس لافييت وهو اللقب الفني له، إذ كان اسمه الحقيقي هو جيمس ستاك لودر، وكان من رواد تصوير»البورتريه» الداخلي في دبلن وصولا للندن، إن لم يكن في كل أوروبا، وذلك بعد أن أسس ستوديو «لافييت» في ذلك العام في دبلن، وقد اختار لودر هذه اللفظة الفرنسية لاسم الاستوديو ولقبا له؛ ليوحي تجاريا بخلفيته الفنية، حيث كانت فرنسا رحم ولادة التصوير الفوتوغرافي في عشرينيات القرن التاسع عشر. بعد عودته من مدينة الأضواء باريس، حيث تدرب على التصوير الفوتوغرافي فيها، رسخ لودر تخصصه ومكانته في تصوير «البورتريه» عبر سنوات تدربه وعمله في باريس، وكذلك بعد عودته لدبلن في إيرلندا، وهو ما دفع دوقة «ديفونشاير» صوفيا ميرفي في «بيت ديفونشاير» في حي البيكادلي الراقي في لندن، إلى دعوة لودر لتصوير حفلها الراقص بالأزياء التاريخية لضيوفها عام 1897، بعد أن كان هذا النوع من الدعوات حِكرا على الرسامين، وتلاها العديد من الشخصيات الملكية البريطانية، بمن فيهم الملكة فيكتوريا، وقد حصل لودر على لقب المصور «الفيكتوري» و»الإدواردي» وهي الألقاب التي كانت كذلك حكرا على الرسامين في ذلك الوقت.
اعتمدت الدوقة أزياء محددة لضيوفها وهي أزياء شرقية وغربية أيضا، ومستوحاة من قصص وحكايات الشرق والغرب وشخصياتها؛ مثل كليوباترا وزنوبيا ملكة تدمر، وبلقيس ملكة سبأ وديزدمونة زوجة عطيل، وكاسيو الذي يعمل تحت إمرة عطيل، والسير غالاهاد، وروميو وجولييت، وفرسان الطاولة المستديرة، ناهيك عن الشخصيات الأسطورية اليونانية والرومانية، والكثير من الشخصيات الأخرى.
تميز لودر في تصوير البورتريه داخل الاستوديو الخاص به، أو نقل معطيات الاستوديو للمكان الذي سيعمل فيه، كما فعل في حفل «بيت ديفونشاير» الراقص ذي الأزياء التاريخية. أحضر لودر معه للحفل الراقص الخلفيات التي رسمت بعناية، وكذلك الإضاءات، ومعدات ومواد التظهير، بالإضافة لكاميراته. اعتنى لودر بأدق تفاصيل تصوير البورتريه، من حيث الإضاءات الجديدة التي ابتكرها بنفسه، والمسافة المحسوبة في العلاقة ما بين طبيعة البورتريه، ما إذا كان نصفيا أو كاملا وبين المساحة في الخلفية، وتميز كذلك بكونه مصورا صبورا، حيث لم يكن يركن للنتيجة الأولية في عمله، حيث يقوم بتظهير الأصول السلبية الزجاجية «النيجاتيف» مباشرة في الموقع ذاته، حتى لو كان ذلك خارج معمله، لكي يطلع على النتيجة ومن ثم يعيد التصوير بوضعيات وزوايا مختلفة إذا ما لزم الأمر.
اعتنى لودر كذلك بالخلفيات المرسومة خصيصا لمشاريعه الفوتوغرافية، كما فعل في مشروع الحفل الراقص لتمثل كل خلفية الزي التاريخي للشخصية، وهو يعد من أوائل من أسسوا لهذه الأسلوبية في تصوير «البورتريه» داخل الاستوديو.
وقام بتسجيل العديد من براءات الابتكارات والأساليب الفوتوغرافية عبر سنوات عمله، ولكن ذلك لم يمنع العديد من الفوتوغرافيين من تتبع خطوات أسلوبه الفني الفوتوغرافي في تصوير «البورتريه» الداخلي، وكان اهتمامه بهذه التفاصيل والخروج بأفكار فوتوغرافية وآليات إضاءة صناعية جديدة، وكذلك التأني في العمل والتصوير المتكرر للشخص ذاته، على الرغم من صعوبة الاطلاع على النتائج سريعا في ذلك الوقت، لكي يتمكن من منافسة الرسامين وتقديم نفسه كبديل لهم.
بقي ستوديو»لافييت» منذ عام 1880 في دبلن وامتد بفروعه في كل من غلاسكو ومانشيستر ولندن، وكان على قمة الاستوديوهات المتخصصة في تصوير «البورتريه»، وبعد وفاة جيمس لودر عام 1923، أخذت الفروع تتراجع في العمل حتى أغلقت كلها في أقل من بضع سنوات بعد موته، ولم يبق سوى الفرع الرئيسي في دبلن حتى عام 1952 حيث بيع الاستوديو، والكارثة الفنية أن آلاف الأصول السلبية الزجاجية «النيجاتيف» فقدت من ستوديوهات لندن ومانشيستر، وقد شاع أنه تم إتلافها مع إغلاق الاستوديوهات، بما في ذلك 200 «نيجاتيف» زجاجي لحفل «بيت ديفونشاير» الراقص.
النسخة المطبوعة من هذه الأصول ال 200 والموجودة في «غاليري البورتريه الوطني» في لندن، تثبت عبقرية وفنية هذا المصور الإيرلندي، والنقلة النوعية التي حققها في هذا النوع من الفن الفوتوغرافي، فن «البورتريه». تم التوثيق، من خلال الدراسات التاريخية الفنية لأعمال لودر، أن هذه الصور من الحفل الراقص، لم يرها ولم يطلع عليها أحد منذ أن طبعت وقدمت للدوقة صوفيا ميرفي، ما جعل الدارسين يؤمنون بأن الأصول الزجاجية قد تكون مفقودة منذ أن تمت طباعتها، أي منذ عام 1897، وهو العام الذي أقيم فيه الحفل الراقص في «بيكاديلي».
في عام 1986 كانت المفاجأة الفنية التاريخية، حيث تم العثور على الأصول الزجاجية للحفل الراقص، يغطيها الغبار في صندوق كرتوني خلف إحدى الشاشات في سقيفة استوديوهات «باين وود» لصناعة الأفلام في لندن، وقد كانت هذه الأصول للحفل الراقص من ضمن الآلاف من الأصول الزجاجية الأخرى التي وجدت في ذات المكان، والتي كان قد جمعت في صناديق كرتونية لكي يتم التخلص منها منذ أن أغلقت ستوديوهات «لافييت» في لندن ومانشيستر، وجميع هذه الآلاف من الأصول الزجاجية التي عثر عليها هي من إنتاج لودر لأماكن ومناسبات تاريخية مختلفة في الحياة الإجتماعية والسياسية والثقافية والفنية في بريطانيا، بما فيها صور الملكة فيكتوريا نفسها، وكان للعثور عليها الوقع الكبير الإيجابي والاحتفالي على كافة المختصين والأكاديميين والمهتمين والجامعات والمتاحف في العالم قاطبة، وحتى دارسي التاريخ السياسي البريطاني.
تعدّ هذه المسودات ثروة فنية، ومرجعا تاريخيا، لما فيها من تفاصيل الحياة الملكية في ذلك الوقت، وصور لشخصيات تاريخية لا تذكر إلا في المراجع المكتوبة، ناهيك عن صور لشخصيات فنية وثقافية وسياسية واجتماعية، قام لودر بتصويرها في ستوديوهاته وفي بيوت الشخصيات المصورة، وتعد أيضا مرجعا فنيا حول تصوير «البورتريه» الفوتوغرافي المبكر وفنونه ومهاراته في أعمال لودر، الذي بفضله جعله فنا منافسا لفن رسم «البورتريه» الذي كان سائدا لمئات السنين.
يمكن التعلم من هذه الصور الكثير، بفهم مصادر وزوايا الضوء وتوزيعاته، وكيفية فهم الشخصية المُراد تصويرها، بالإضافة إلى فهم التوازن في كل صورة ما بين الموضوع (الشخصية) والخلفية والفراغ، وزاوية تصوير هذه الشخصية لإبراز أكثر ما يميزها، ما يظهر في النتيجة النهائية الجهد المبذول في كل لقطة من أجل الخروج بصور فنية في غاية الروعة، ناهيك عن رسم خلفيات متنوعة خصيصا من أجل هذه الصور على ستارة كبيرة، وكل خلفية كانت مدروسة بدقة وعناية لتكمّل فكرة الشخصية التاريخية، وحيزها وبعدها استنادا للمسافة التي تفصلها عن الشخصية المراد تصويرها، لإعطاء الصورة إحساسا واقعيا بعمق الحقل البؤري، ما يظهر الخلفية وكأنها حقيقية وليست رسما، ويسجل للودر أنه أول من ابتكر هذه الطريقة في التصوير الداخلي.
تعد هذه الصور مثالا في تاريخ التصوير الفوتوغرافي، وعلى النقلة النوعية في تقنيات التصوير الفوتوغرافي الداخلي (الاستوديو) وفنونه، فقد امتازت الصور بالإضاءة الهادئة، التي اعتنت بإبراز الظلال في الأزياء والوجوه؛ باستخدام رأس إضاءة واحد واسع الضوء والتوزيع، في غالبيتها، ولإعطاء الصور عمقا بصريا وإبراز الجماليات والتفاصيل الفنية في الملابس المستخدمة. تُعد هذه الصور، من أوائل الصور التي اتبعت هذا الأسلوب الفوتوغرافي داخل الأستوديو في نهايات القرن التاسع عشر، ويعد جيمس ستاك لودر رائد الفوتوغرافيين الأوروبيين الذين تمكنوا من فن التصوير الفوتوغرافي الداخلي ل»البورتريه»، بدرجة عالية من الحرفية.
فوتوغرافي فلسطيني أردني / بودابست
محمد حنون