1من اصل2
بقلم: يسري الفخراني
مقهى قديم، مقاعد صغيرة وطاولات خشبية ترك عليها كل عابر قهوة تذكارًا بقعة بن أو قطرات شاي بحليب أو حريقًا من آثار سيجارة تركت مشتعلة على الحافة.
لا تخلو الطاولات من محاولات حفر حروف لأسماء أو توقيعات بحبر وتواريخ قديمة لإنسان مر من هنا. من عشرين سنة لم أدخل هذا المقهى. كان ملجئي الشتوي في أيام الهروب إلى الإسكندرية. أجلس خلف نوافذه الزجاجية الفقيرة المشبعة بالبصمات أتأمل الميدان والبحر الذي تطل عليه بكل صخبه.
لماذا جئت اليوم هنا؟
بحثًا عن ذكريات؟ عن ماض؟ عن توقيع تركته محفورًا على طاولة ما؟
المقاهي.. عالم عميق مثل أشجار عتيقة أو بحر يذهب عنه عشاقه ويبقى هو في مكانه.. يمحو آثار الأقدام لكنه لا يمحو الذكريات بكل حضورها.
كم مرة سافرت لكي أعود بمجرد طعم فنجان قهوة على مقهى في مدينة بعيدة.
أحب مقاهي القاهرة وبيروت والإسكندرية وباريس وروما وأثينا وقبرص. أحب هذه الصناديق الصغيرة التي تحملنا على رائحة القهوة والدخان إلى عالم بعيد. أحب.. صداقات المقاهي التي تبدأ هنا وتنتهي عابرة بوعد بلقاء لن يأت ولن يتكرر.
هذا مقهى وسط البلد.. أعود له وفي نفسي حنين لصوت «القهوجي» وهو ينادي: قهوة مضبوط على ميه باردة!
لدولاب قديم يحمل وما زال راديو قديمًا يذيع في الليل أغنيات أم كلثوم فقط.
صورة المعلم على الحائط مكللة بشريط أسود. المعلم «تعيش إنت». رحل الرجل الذي كان دخان نرجيلته ملء المكان.
المقهى الذي له باب موارب على الميدان.. لا يغلق أبوابه أبدًا، ا صيفًا ولا شتاء، لا ليلًا ولا نهارًا، يستقبل زوارًا على المدى.. عتبته الرخامية «برتها» الأيام.. ذابت تحت وقع الأقدام.. لكن لم يغير أحد العتبة.. العتبة في الأسطورة إما أن تكون مصدر سعادة أو مصدر تعاسة.. فإذا صادفت عتبة السعادة فتمسك بها.
أبحث عن نفس المقعد.. نفس الطاولة التي غادرتها منذ عشرين سنة، أجتهد جدًا أن أتذكر.