2من اصل3
هنا، تحت هذه المروحة التي تتدلى من سقف رمادي.. أطلب فنجان قهوتي.. فيأتي لي فنجان مكسور الحواف.. لم أشربها لكنني رحت أتأملها كما أتأمل خمسين مقعدًا في المكان وثلاثين طاولة.. من جلس على كل طاولة ومضى؟ من ذهب إلى حلمه ومن ذهب إلى حتفه؟ من عبر إلى هنا لكي يبدأ حياته في المدينة المزدحمة ومن عبر لكي يهرب منها؟
هذا مقهى عمره مائة عام..
بعض الدول لا تملك هذا العمر.. لا تملك المائة عام.. لا تملك عدد من مروا على طاولات هذا المقهى.. زمنًا بعد زمن.
في المقاهي نمتلك طاولة لبعض الوقت.. ثم تصبح لنا بعد ذلك مجرد مساحة تركنا فيها كلامًا كثيرًا وضحكًا ودهشة وصراعًا وحسابًا.
لو جمعنا ذكرياتنا التي تركناها على طاولات المقاهي.. لأصبحنا أعظم مؤلفي الروايات.
المقاهي عالم حقيقي. مع القهوة ومع صواني الشاي بالنعناع ومع الصخب ومع الدخان ومع الزحام ومع تقليب السكر وذوبانه.. تصنع أشياء كثيرة.. ويفتح الناس قلوبهم لكي يتكلموا ويفضفضوا.. ويصرخوا. وترتفع مساحة الحقيقة كلما طالت الجلسة.. قعدة القهوة لا شيء يساويها في تدفق الذكريات وارتفاع نسبة الواقع.
يشغلني سؤال دائمًا في هذا المقهى العجوز الذي أعود إليه متسللًا إلى ذكريات: إلى متى يصمد المقهى؟ ومتى سيتحول حتمًا إلى كومة تراب ثم عمارة فاخرة مرتفعة تطل على الميدان بعد أن تدفن كل ذكريات آلاف جلسوا هنا ومروا من هنا؟
مهما صمدت. يومًا ستتحول إلى خرابة في أول مشوار الهدم. هل من حق أحد أن يهدك الذكريات؟
هل أصبح الجيل الجديد محظوظًا أكثر من جيلي وأجيالنا لأنه لا يترك أثرًا لذكريات أو حنين على طاولة مقهى أو مقعد؟
نحن أكثر حظًا بطاولاتنا القديمة ومقاعدنا التي حملتنا زمنًا لكي نحلم؟ أم جيل جديد ينتقل من ستار بكس إلى كوستا إلى لاروما؟
المقاهي القديمة لا تقاوم.. وتغلق ضلفها استعدادًا لرحيل نهائي.
من يمر على تلك المقاهي لكي يجمع لنا ذكرياتنا في كف يدنا.. هل تكون الحياة طيبة بدون ذكريات؟