ماركيز الكاتب الجيد حين يرحل

ماركيز.. الكاتب الجيد حين يرحل

ماركيز.. الكاتب الجيد حين يرحل

في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وفي بداية تعرفي إلى سكة الكتابة السردية، بعد أن ظللت أكتب الشعر منذ الطفولة، وكنت طالبا في مصر، أصابتني حمى القراءة العنيفة لكل ما كتب من قصة ورواية ونقد، سواء أن أنتج عربيا أو ترجم لنا من لغات أخرى. لم تكن هناك بالطبع إنترنت ولا وسائل اتصالات من أي نوع ليتعرف المرء عن طريقها إلى الطرق التي تؤدي إلى أهدافه، مثل أي الكتب يقرأ، وأي الأفلام السينمائية يشاهد، ومن هم الكتاب الجديرون بمتابعتهم.
لكن كانت توجد المقاهي الثقافية، أي المقاهي التي يرتادها المثقفون في وسط القاهرة، ليجلسوا ساعات، يستمعون فيها إلى بعضهم، ويتناقشون في إصداراتهم وإصدارات غيرهم من تلك التي قرأوها وكونوا رأيا، ولم تكن تلك الجلسات يومية في الغالب، ولكن مرة أو مرتين في الأسبوع، وإن كان البعض يأتون بشكل شبه يومي. وقد نوهت كثيرا إلى أن تلك المقاهي كانت الفيسبوك، وتويتر، الخاص بذلك الزمان، حيث يمكن العثور بسهولة على أخبار الثقافة ونقلها مباشرة إلى الصحف، ويحدث في كثير من الأحيان أن ينطق أحدهم بفكرة ما، لم تصبح نصا بعد، ليجدها في اليوم التالي، تحتل مساحة لا بأس بها في صحيفة أو مجلة، بوصفها خبرا عن عمل منجز تحت الطبع، وأذكر في تلك الأيام أن ذكرت لعدد من الذين يجلسون معي إنني أكتب نصا اسمه: ذاكرات ميتة، وكان ذلك في الحقيقة مجرد فكرة خطرت ببالي، لم تنجز قط، لكن وجدت بعد عدة أيام، في إحدى الصحف اليومية، خبرا عريضا عن الذاكرات الميتة التي ستصدر عن إحدى دور النشر قريبا.
إذن كانت ثمة وسيلة لمعرفة ما يجري في المحيط الثقافي، وعن طريق تلك الوسيلة، وتزامنا مع حمى القراءة التي ذكرتها، دخلت آداب كثير من البلدان إلى حياتي كقارئ، ومنها أدب أمريكا اللاتينية، وعلى رأسه ما أنجزه غابرييل غارسيا ما ركيز. دخلت روايات مثل: جنازة الأم الكبيرة، ليس لدى الكولونيل من يكاتبه، إيرنديرا الغانية، مئة عام من العزلة، سواء في طبعات عربية أو إنجليزية، وتأتي بعد ذلك في فترة التسعينيات وبعد أن تركت مصر، باقي أعماله كلها، وحتى سيرته الذاتية التي حملت عنوان: عشت لأروي، أو تلك التي كتبها جيرالد مارتن، بعد أن أمضى سنوات طويلة في مصاحبة ماركيز، والاستماع لشهاداته وشهادات أصدقائه، في شتى الشؤون.
لقد أردت القول، إن ماركيز كما أعتقد، ولعل الكثيرين يوافقونني على ذلك، كان الأجدر وسط ذلك الزخم القرائي، بسرقة أي قارئ من الكتب الأخرى لآخرين، وتوظيفه في قراءته وحده. لم يكن ديكتاتورا عنيفا في ذلك، ولكن القارئ يستجيب برغبته، وكامل إرادته، ويصبح من الصعب أن ينتزع نفسه من عالمه بعد ذلك، ليغرسها في عوالم أخرى. الدهشة، الغرائبية التي تصبح حقيقة حين تعجن بفن داخل نصوص حقيقية. رواية القصص بانسيابية غريبة، والحوادث النادرة كأنها تحدث كل يوم، فالرجل الكبير حين يصاب بالخرف، يربط إلى جذع شجرة في حوش البيت، ولا يكون ذلك غريبا، والخادم يعود إلى بيت سيده بعد سنوات من الغياب ليردد إنه جاء ليشارك في جنازة السيد، ويكون السيد في تلك اللحظة في كامل صحته، ويتناول عشاءه، ثم ليموت في اليوم التالي، ويشارك الخادم بالفعل في الجنازة. إيرنديرا التي كانت من شدة ما كانت ترهقها جدتها، ساعات نومها كاملة وهي تعمل، ثم يحترق البيت من شموعها أثناء نومها النشط، وبعد تقدير خسائرها، توظفها الجدة عاهرة متنقلة، لتجميع مبالغ تعوض خسائرها.
لقد كان الخيال هو مفتاح الإدهاش عند ماركيز، وشخصيا لا أنسجم مع أي عمل روائي أو قصصي لا يتبل بالخيال، ودائما ما أقول، إن القراء لا يحتاجون لمن يكتب لهم حياتهم اليومية كما يعيشونها، ولكن تلك الحياة الموازية، التي ربما كانت ستكون حياتهم، وربما هي أحلامهم البعيدة التي لن تتحقق، ماركيز صنع ذلك، وكثيرون غيره من كتاب أمريكا اللاتينية والعالم صنعوا ذلك، فقط تأتي الريادة، الجرأة التي كسرت حاجز الخوف من التحديث، واستخدام الخيال في أقصى طاقته. نعم فقصة مثل قصة الملاك المسكين الذي عثر عليه في حوش أحد البيوت،لا تكتب إلا والخيال في قمة اشتعاله، وقصة مثل: أجمل غريق في العالم، كانت درة لأنها علقت على جيد الكتابة بقلادة من الخيال الخصب.
لقد كان ماركيز معلما كبيرا بلا شك، انتقل بموهبته وحدها، من تشرده الأخاذ في أوروبا خاصة باريس، في فترة من فترات حياته، إلى استقراره الأخاذ، في أي وجدان تهزها الكتابة الجيدة، وأي موهبة أخرى، تود أن تصبح موهبة مؤثرة. ولعله الكاتب الوحيد الذي يجري اسمه على كل لسان حين تذكر الملكة الكتابية المؤثرة، ولذلك لم يكن غريبا، أن يتم اختيار ملحمته: مئة عام من العزلة، من قبل نقاد وقراء، ومتخصصين، الرواية الأكثر تأثيرا في العالم، وهي كذلك لأن لا أحد قرأ مئة عام من العزلة إلا ضحك أو بكى أو استغرب أو اندهش، أو اضطرب. وفي رأيي إن: الحب في زمن الكوليرا، ملحمة أخرى لا تقل تأثيرا عن مئة عام من العزلة، لكن الأخيرة أضاعت شيئا من شهرتها، لأنها أتت أولا، ولأنها كانت حاضرة، كشهادة عظيمة أهلت المعلم ماركيز لجائزة نوبل.
منذ سنوات كتب ماركيز روايته الصغيرة: ذكرى غانياتي الحزينات، متأثرا برواية الياباني ياسوناري كاباواتا: الجميلات النائمات. كما هو معروف، وهذا تأثر لم ينكره ماركيز، حين كتب فكرة يا سوناري قصة قصيرة أولا عن المسافر الذي يراقب نوم امرأة جميلة، تجلس بجانبه في الطائرة، ثم كتبها رواية بعد ذلك. شخصيا أعتقد وربما يخالفني آخرون، إن غانيات ماركيز الحزينات، لم تكن رواية أصلية، ترتدي ثياب خياله البديع، ليست مثل أجمل غريق في العالم، ولا أحداث موت معلن، حين تكون الفكرة ضربة إدهاش موفقة، ارتدت ثوب خيال مطرزا في معمله الشخصي، بل صناعة لنص مهما حاول لن يخرج عن تساؤل الناس، مقارنته بالنص الأصلي البديع الذي كتبه كاباواتا. لقد كتبت في تلك الأيام عن شيخوخة الكتابة، وإن المبدعين أسوة بغيرهم ينبغي أن يتقاعدوا عن الكتابة حين تشح هرمونات الأفكار أو تنعدم. عموما ذلك لم ولن يقلل من حجم كاتب مثل غارسيا، لأن الكاتب الجيد، يحال لتجربته كاملة لا لنص عاق من نصوصه، كتبه تحت ظروف معينة.
المحصلة، إن غابرييل غارسيا ماركيز، سيد الكتابة، أستاذ الحكايات، قد رحل، وخسارة مثل هذه نحسبها من الكوارث.
‘ روائي سوداني

m2pack.biz