ما الذي أبقى تلك الأغنية خالدة؟
في أثناء تجواله بين خرائب استوديو مصر توقّف الناقد السينمائي سمير فريد أمام باب مقفل وقال: هنا في هذا البلاتوه أقيم ديكور «ليالي الأنس في فيينا». كان فاضحا ومأساويا الفارق بين ما جرى تصويره آنذاك في مطالع الأربعينيات، والخرائب الباقية من ذلك الاستوديو.
أتت جولة سمير فريد في المشاهد الأولى من فيلم المخرجة عزّة الحسن جوابا صادما على ما كنت أتساءل حوله في السنوات الأخيرة: هل ما زال استوديو مصر كما كان؟ أو هل ما يزال يعمل؟ ذاك لأن الوصف الاحتفالي الذي أتحفنا به مَن كان يسمى «شيخ النقاد»، أحمد كامل مرسي، وكنا متجمعين حوله في يوم ما من عام 1980، لم يطله النسيان، أو حتى الاجتزاء، رغم انقضاء كل تلك السنوات.
كان شيخ النقاد في نحو الثمانين آنذاك، ونحن، سامعيه، دهشنا من بقاء ذاكرته حيّة ونابضة بكل تلك التفاصيل بعد45 عاما من يوم الاحتفال ذاك. كانت نخبة مصر الفنية وغير الفنية حاضرة هناك، شأن ما نشاهد اليوم في احتفالات الأوسكار والغولدن غلوب، وكان الاستوديو مبهرا بجدّته التي أطلقت لها المدافع إحدى وعشرين طلقة، وفي الأعلى، راحت طائرات تخطر في سماء المكان راسمة بخطوط عريضة ملوّنة كلمتي «ستوديو مصر».
من فيلم عزة الحسن «حضور أسمهان الصعب الاحتمال» جاءت خرائب الاستوديو بالإحباط الأول. لكن ما يعوّض هو بقاء تلك المشاهد الأولى، الأصلية، حية إلى الآن. مع تلك الصورة المأخوذة من الأعلى لأسمهان في الوسط تحيط بها مجموعة فاتنات بدوْن مثل ورقات زهرة بيضاء ساطعة بالأسود والأبيض اللذين، لبقاء قوتهما اللونية حاضرة فيهما، بدا زمننا، الملوّن، بائسا ومضعضعا وبلا جاذبية.
ربما هذا ما أرادت عزة الحسن إظهاره في الفيلم، أن تقول إن الماضي الجميل بقيت منه خرائبه شاهدة عليه، وعلى زماننا الحاضر في وقت معا. فإلى استوديو مصر هناك فندق صوفر الكبير الذي راحت ديانا الأطرش، قريبة أسمهان، تصف، فيما تصوّر لنا الكاميرا خرائب القصر وركامه، كيف كانت أسمهان تحيي السهر فيه. حتى فيينا، التي ما زالت أغنيتها، إلى الآن، تفتن الخيالات العربية، باتت مدينة قاسية مضجرة خارج عيشها. تلك المرأة المهاجرة، من المغرب ربما، قالت في الفيلم إن أسمهان لم تكن لتغنّي فيينا لو كانت عاشت فيها. ربما كان أحد ما، قد قال لتلك المرأة أن فيينا في تلك الأيام كانت تجري فيها ليالي الأنس العظيمة بحق، لكن ما سعت عزة الحسن إلى قوله هو التالي: الفارق ليس بين ماضي فيينا وحاضرها، بل بين فيينا الحقيقة وفيينا الخيال.
الخيال الذي أثارته الأغنية وألهبته صنع تلك المدينة على هواه. فلنتخيل أن تُعشق مدينة لم تُشاهَد منها صورة واحدة. أحد الذين حاورتهم المخرجة عزة الحسن قال إنه مقيم في فيينا منذ 15 سنة، أما ما أتى به إلى هنا، فأغنية أسمهان.
الزمن الجميل يعني الزمن الخيالي، الزمن الذي يتيح للمخيلة إعادة تصويره أو تكوينه، لذلك قد يتساءل مُشاهد هذا الفيلم (الذي لم يعرض بعد عرضا تجاريا في ما أحسب، رغم مضي ثلاث سنوات على إنجازه) في أي المكانين كان الزمن جميلا: القاهرة أو فيينا؟ كل من جرت محاورتهم في الفيلم ذكروا شيئا عن زمن مصرالجميل ذاك، أو رووا شيئا يدل على ذلك. حتى ما قالته نبيهة لطفي عن تنازع تحية كاريوكا وأسمهان على الفوز بأحمد سالم، يحمل شيئا من جمال ذلك الزمن. حتى غرق أسمهان ورفيقتها في الترعة كان شيئا منه أيضا، ذاك أن تلك الحادثة المأساوية يمكن لها أن تكون نهاية فيلم سينمائي. وهي كانت قريبة جدا من ذلك على كلّ حال، لكون ما جرى قد سبق العرض الأول لفيلم «غرام وانتقام» بليلة واحدة. في ليلة الافتتاح تلك وقف يوسف وهبي، شريك أسمهان في البطولة، وخاطب الجمهور الذي سيشعر كل واحد منه، كل فرد، أنه كان هناك في ليلة الاحتفال الخالدة. قال يوسف وهبي آنذاك، بعد أن كان وضع وردة بيضاء على اللوج المخصّص لأسمهان: أيتها الجماهير، أسمهان تجلس في اللوج المجاور ليّا، قِفوا واقرأوا الفاتحة على روحها».
أولئك الذين جرت محاورتهم في الفيلم بدوا حائرين حيال الحضور المستمر لأسمهان. هي فقط ثلاثون أغنية غنتها أسمهان، فهل هذه كافية، رغم جمالها، إلى أن تحتل مغنيتها هذه المكانة الدائمة، أو ربما هي حياتها التي هي فيلمها السينمائي الآخر، فيلمها القصير لكن المليء بالشغف والمغامرة والبحث عن شيء لم تجده ولم تعرف ماذا هو.
روائي لبناني
ما الذي أبقى تلك الأغنية خالدة؟
حسن داوود