ما بعدَ الكُولونياليّة، والجُغْرافيا التّخَيُليّة
لنَظريةِ ما بعد الاسْتعمارِ الأدبيّة عددٌ مِن الآلياتِ الْمَفاهيم، أهمُّها مركزيّةِ التّمثيل Representation التي تتأسسُ على قُدرة اللغةِ على تَمثيلِ الأشياء. فاللغَةُ تَكْوينٌ حاضرٌ، في حين أنّ المُعْطى الحَقيقي، أو الشّيء، المُمثّل، يتوارى خلفَ أنسجةِ اللغة، وهنا تنشأُ إشْكالياتُ التَّمُوْضع الإيْديولوجي في تمثيلِ الشَيء، والإنابةِ عنهُ دلالياً، لِيُضْحِي غيرَ الحقيقيةِ.
وفي الجُغرافيا التّخيليّة الكولونيالية Imaginative Geography (إدوارد سعيد، الاستشراق) يُحددُ التّمثيل بأنماط، وصيغٍ مُتعددة، فالمجالُ الجغرافيُّ الخاص للآخرِ، يَتحددُ بناءً على المَنْظُور الغَربي الّذي اختلقَهُ عبرَ تكوينٍ نصيٍّ لغويّ؛ لذلك أصبحتِ الجُغرافيا رهينةَ مقولةِ مَجالنا، ومَجالهم، هذهِ (الأنا- نحن)، وال(هُم) تُعدّ مُجتَمِعةً أساسَ التّمايزِ بينَ المُسْتعمِر والمُسْتعمَر، أي بينَ (الغَربي الأوروبي) والآخر، غيرَ أن ّهذه الجُغرافيا التُخيليّة، ليستْ تَكويْناً مَادياً فقط، إنّما هي- كما نَستعيرُ مِنْ هومي بابا – عبارة عنْ دالٍ أو دَوَاليل، تَهدفُ إلى تَحقيقِ وَظيفةِ الاختلافِ، فهذا الدّال، كانَ فَارغاً وأبيضَ؛ إلى أنْ جاءَ المَسْتعمِر الغربي، وعملَ على مِلْئِه بالفعلِ الخَطابي المُوجّهِ، والمُنظّم، والمَدْعومِ بسلسةٍ كَاملةٍ من الافْتِراضاتِ والأكاذيبِ، فهو أقربُ ما يكونُ إلى عالم تَخُيّلي منْ صُنع أدبياتِ المُسْتعمِر، تهدفُ إلى تَشويهِ الآخر.
يَرتكزُ إدوارد سعيد في تحليلهِ لِهذهِ العَمليةِ على إدراكِ مقولة مَجالِ الغَربي في ابتناءِ فضاءِ الآخرِ المَكاني، فمجالُ (البَرابِرة)-(هُم)، لا يشترطُ أنْ يعترفَ (البرابرةُ) بذلكَ، إنّما يَكتفي الغّربي، أو (نحنُ) ‘ بأن نُقيمَ هذه الحدود في أذهاننا ‘ (سعيد، 44). وهكذا، فإنّ الشرقَ كما يُعاينهُ إدوارد سعيد عبرَ تحليلهِ لعددٍ من المسْرحياتِ اليُونانيةِ القديمة، وعبرَ أعمالٍ أُخرى، لمؤرخينَ، ورحالةٍ، وتجارٍ، وقادةٍ، ومؤلفين، مُعظمُها كانَ يَنْهضُ عَلى مُجرّدَ تُصوّراتٍ حولَ الشّرق والإسلام، بيدَ أنَها لا تقومُ على مُعاينةٍ حقيقةٍ، بلْ هي نتيجةُ مَعرفةٍ ذهنية مُؤْدلجة، وذات مَنْحى مُغرقُ في التّعميمِ. ومن الأمثلةِ الجليّةِ على هذه الممارسةِ، الإسْقاطاتُ الّتي مارسَها المُؤرخون الأُوربيون على الإسْلامِ، والشّرقِ عَامة، إذ مُسْرِحَ كليهما لصالحِ الغَرب، وهكذا باتَ هناك من يُمثّلهُما. يُوضحُ إدوارد سعيد هذه العَملية، بقوله: ‘ ومفهومُ التّمثيل مفهومٌ مسرحيٌّ: فالشّرقُ مسرحٌ عليه يُحْصرُ المشرقُ بأكمله، وعلى هذا المسرح ستظهرُ شخصياتٌ دورها هو أن تمثلَ الكلّ الأوسع الذي تنبعُ هي منهُ، ويبدو الشّرق إذن، لا امتداداً دون حدود خارج العَالم الأوروبي المألوف، بل حقلاً مُغْلقا، مَسْرحاً تمثيليّاً مُلْصقاً بأوروبا’. ( سعيد،92)
هذا التحليلُ يّكْشِفُ عن مقدارِ التّهويمات المسرحيّة التي اضطلعَ بها المُستشرقُون، فالاختبارُ للشّرق كان مجموعةٍ من العناوين الجَاهزة، فضلاً عن مَلذاتٍ ورعبٍ وأبطالٍ وشهوات، وهي في مُجْملها مخزونٌ قام َبتغذية الخيال الأوربي، هذه المعرفةُ المُقتضبة، كانتِ المدخلَ الّذي تمّ من خلاله اكتناه الشّرق، والتّمهيد لصنعِ تَراكمات من التّمثيلات التي تنوب عن الشّي، لا الشّيء ذاته، غير أنّ هذه العملية ليستْ وليدةَ العَصر الحَديث، إنّما بدأتْ منذ العَصْر اليُوناني إلى القرنِ الثّامن عَشر، حيث يَصفُها سعيد بالإنشاءِ التّمثيلي المَعني بالتّركيز على المَجازات التي تصنعُ الشّرق. وهكذا نستنتجُ بأنّ إدوارد سعيد يقيمُ فصماً واقعاً بين اللغة المُستخدمة لوصف الشّرق، وبين الشّرقِ نفسِه، لأنّ اللغةَ هي في الحقيقة غيرُ دقيقة ( سعيد،100) .
في حالةِ الفضاء الجُغرافي هناك نمطٌ آخر-ربما -يتجاوزُ النّسق التّخيُلي، حيثُ نَلْحَظُ أثرَ التّمثيلِ على المُسْتوى المادي الذي يَعني الأَرض، هذا ما نجدهُ في دراساتِ الكثيرِ من المَعْنيين بخطابِ ما بعد الكولونيالية، تحتَ مُسميات أو مصطلحاتٍ مختلفة، منها التّرسيم، وإعادة رسم الخرائط، والفضاء، والمكان، والجغرافيا، وما إلى ذلك. وتكادُ لا تَخْلو دراسةٌ من هذا الموضوع لأهميتهِ في سِياق النّظرية ما بعد الكولونيالية. إنّ إعادةَ تمثيلِ الجُغرافيا من منظورِ المستعمر، تبدو شديدةَ الوطأة، كما في فلسطين التي تَشْهدُ إقصاءً وتشويهاً لتكويناته الماديّة، أو محاولاتٍ لطمسِ لمعالمِ المَكان التي تُعدّ شاهداً على هويةٍ ثقافيةٍ غير مَرْغوبة، أو ينبغي تَصْفيتُها وإنهاؤها، كما تفعلُ الصّهيونيةُ على أرضِ فلسطين، لاسيما في القُدس. يُضافُ إلى ما سبق حالةُ التّشظي المَكاني الذي شَمل فلسطين التّاريخية. ومن الملحوظاتِ اللافتةِ حولَ هذا الموضوع، ما أورده ‘روبرت يونغ’ في كتابه ‘ ما بعد الكولونيالية -مقدمة موجزة ‘ وفيه إضاءةٌ على حالات التّشظي المُمارس على الأرضِ الفلسطينية، إذْ يصفُ الأراضي الفلسطينية (الضّفة الغربية وقطاع غزة) بعدَ اتفاقية أوسلو بسماءِ ليلةٍ غائمةٍ، تنتشرُ فيها النجومُ، وهذا كنايةٌ عن التّمزيق الذي تمارسُهُ دولةُ الكيانِ الصّهيوني على الأراضي الفلسْطينية عبرَ الحواجزِ، والتّقسيمات، ونقاطِ التّفتيش، وجدارِ الفصل العنصري (Young , Postcolonialism , 66) .
غير أنّ (يونغ) لم يأتِ على الفعلِ الأكبر من عمليةِ التّمزيق، والاقتطاع الّتي طالتْ فلسطين التّاريخية، وهذا يجعلُ من عَمليّة تشويهِ الْمَكان، أو إعادة إنتاجهِ فِعْلاً مركباً. هذا التّمثيل الذي يضطلعُ به المُسْتعمِر، أو المُستوطِن لتغيير الجُغرافيا جاءَ تحقيقاً لمصلحتهِ وحاجاته الاستعمارية، فلا عجبَ أنْ ينعكسُ ذلك على حضورهِ، وتمثّلهِ في الكتابة الأدبيةِ الكولونياليةِ، ونقدِها التي تذهبُ إلى مناقشةِ موضوعاتٍ، أو لنقل آلياتِ تشويهِ المَكان، وهويّته الحقيقة، ومن ذلكَ تَغيير أسماءِ الأماكن، وتزويرِ تَاريخها، وشكْلِها، وأخيراً قيمتها الثّقافية في كثيرٍ من المناطقِ التي اسْتعمرتْ في أنحاء العالمِ، لا سيما ذات الطّابع الاستيطاني، وأبرزُ نماذجه ما يَحصلُ في فلسطين.
هذا الصّدى للفِعل الكُولونيالي تجاهَ المكان، وعلاماتهِ اللغوية، دفعَ (جوستين إدواردز) إلى طرحِ نموذجٍ من هذه المُمارسات (الخطابية) عبرَ قراءةِ عددٍ من الأعمالِ الأدبيّةِ التي تُعيدُ تَمثيلَ وتشكيلَ الأرضِ المُسْتعمَرة، إذ يَعمد المُستعمِر إلى تَغييرِ أسماءِ الأحْياءِ والمَناطقِ والمُدن، وإعادة تقسيمها، مما يخدمُ مصالحَه الكولونيالية، وترتيباته الأمنيّة، علاوةً على رؤيته الثّقافية، ونموذجه مسرحية’ الترجمة Translations للكاتب ‘ براين فريل’، وفيها يبرزُ ما يقومُ به البريطانيون منْ وضعِ خارطةِ مُسمياتٍ جديدةٍ لقريةٍ إيرلندية، وذلك خدمةً للمَصالح الإمبريالية.(Edwards , post colonialism, 85) .
وهكذا يبدو فعلُ التّمثيل الجُغرافي مُتحقْقاً على مستويين، الواقع، أو المستوى المادي، أي ما تشهدُهُ الأرضُ، أَو المُسْتعْمرات من إقصاءٍ لهويتها الدّلالية، والثقافيّة من تَقويضِ مَلامِحها وموجوداتِها الماديّة، وبعبارةٍ أخرى تدميرُ مرجعيةِ الدّال المادية، ومن ثمّ تدميرُ الدّالِ عينِه، هذا يرتبطُ باللغةِ، والفَضاء التّخُيلي النّصيّ، وكلا الآليتين تَصلحانِ للمُمارسة بشكلٍ معكوسٍ.